روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع لحَسَّانَ منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو من قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))(1). وفي رواية الترمذي عنها أيضا ((… يقوم عليه قائما يفاخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما يفاخر- أو ينافَح- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم))(2). وفي رواية الإمام أحمد عنها كذلك: ((وضع لحسان منبرا في المسجد ينافح عنه بالشعر))، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عز وجل ليؤيد حسان بروح القدس ينافح عن رسوله صلى الله عليه وسلم))(3).
والملاحظ أن حديث الباب وإن اختلفت رواياته بعض اختلاف -وهي من رواية أم المؤمنين- إلا أن عناصره الكبرى حاضرة فيها جميعا، وتشكل ثابتا، وعلى هذا الثابت سنبني قراءتنا هذه.
يتكون الحديث من كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام أم المؤمنين نفسه قسمان: كلام عن فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلام عن فعل حسان، فانتهى الحديث إلى ثلاثة أقسام كبرى.أمّا القسم الأول وهو كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فهو إخبار عن فعلٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في رواية بـ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع)) الدال على أننا أمام فعل استمر مدة(رواية أبي داود والترمذي)، ويُفهَم منه أن المنبر كان يوضع ثم يرفع، وبين إخبار -في رواية أخرى- أنه “وضع”، وهو دال على مرة واحدة، ويُفهَم منه استمرار وجود المنبر في المسجد، وبين هذا وذاك فالقاسم المشترك -رغم اختلاف اللفظين- هو أن المنبر وُضِع في المسجد من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان دون سواه، وهذا القاسم من الأهمية بمكان، وتظهر تلك الأهمية من أمور: أولها أن الأمر قد تولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، سواء أكان أمر فعل حقا، أم أمر إشراف على الفعل بالطلب والأمر. وثانيها أنه يتعلق بمنبر، ودلالة المنبر غير خافية، وأقل ما يَرِد على الذهن من ذلك ارتباط قيمة الشعر بقيمة الخطبة. وثالثها أنه في المسجد، ومعلوم أن المسجد وقتها هو المؤسسة الرسمية للدولة ففيها تَجري العبادات، ويُعلَّم الناسُ العلمَ، وتُدار الدولة، ويُؤَطَّر الناس… ورابعها أنه -بناء على ما سبق- دال على مكانة الشعر وأهميته، وقد خُص بأفضل منبر إعلامي لنشره، وضمان سرعة تداوله، وشدة تأثيره. وخامسها قَصْر لذلك المنبر على حسان بن ثابت، وفيه من الفضائل الكثير، وأقلُّها إفراده بهذه المكرمة، والاعتراف له بالموهبة. وسادسها أن فيه -بناء على ما سبق- اكتفاءً بشاعر واحد له القدرة على أداء المطلوب دُونَ فتْح الباب أمام شعراء آخرين قد تُؤدي كثْرتُهم إلى التأثير على طبيعة المؤسسة المحتضنة وأدائِها وظيفتَها. وسابعها أن فيه اختيارا واعيا لشاعر له سمْعتُه الشعرية حتى قبْل ظهور الإسلام. وثامنها أن فيه إشعارا لهذا الشاعر بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، ودفْعه -بناء على ذلك- إلى أن يكون في مستواها. وتاسعها أن فيه اعترافا بشاعرية هذا الشاعر، وموهبته، وأفضلية شعره على شعر غيره، وقدرته على أداء المطلوب. وعاشرها أن فيه دفْعا لمؤسسة المسجد لاحتضان الصوت القوي الفاعل، وما يعْنيه ذلك من إشعار هذا الصوت بالاطمئنان؛ لأن صوته مطلوب، ومكانته محفوظه. فنحن إذن أمام فعل نبوي مليء بالدلالات، لاسيما عندما نستحضر ثلاثة أمور كلية: هي أن ذلك الفعل صادر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه تم -أو كان يتم- في المسجد، وأنه مرتبط بحسان بن ثابت الشاعر الفحل المشهور في الجاهلية والإسلام.
د. الحسين زروق
————-
(1)- صحيح سنن أبي داود، حدبث رقم5015، ك.الأدب، ب. ما جاء في الشعر. وقد علق عليه الألباني بقوله: “حسن”، كما أورده في(الصحيحة، حدبث رقم1657). ورواه الترمذي في (سننه، حدبث رقم2846، وقال: “هذا حديث حسن صحيح”.
(2) – صحيح سنن الترمذي، 3/135، حدبث رقم 2846، ك.الأدب، ب. ما جاء في إنشاد الشعر.
(3) – مسند أحمد، 17/331، حدبث رقم 24318، وقد علق عليه محققه بقوله: “إسناده صحيح، رجاله مشاهير”.