أسباب أزمة الأمة، وسبل كشف الغمة


إذا كانت أزمة كل امة أو مجتمع متمثلة في أزمة حضارته، على ما قرره مالك بن نبي،1 فإن السؤال المطروح هو ما السبب الذي أدخل حضارتنا في مرحلة الأزمة؟، ثم ما العامل الذي كان له الدور الرئيسي في تخلف أمتنا ودخولها في عصر الانحطاط؟. إذا ما نظرنا في السياق التاريخي لهذا الانحطاط، فإننا نجد أن العالم الإسلامي كان قبل هذه المرحلة العصيبة يعيش ازدهارا كبيرا في مختلف المجالات والميادين، ليبدأ في التراجع والانحطاط بعد سقوط الرجل المريض وموته نهائيا، ليدخل بعد ذلك مرحلة هجوم الآخر عليه وتحويله إلى كعكة أخذ هذا الآخر بتقسيمها بين أبنائه ليتناولوها مع كأس من “الشامبانيا”، وهذه هي بداية التحول السلبي لحضارة الإسلام، حيث بدأ الخط بالنزول.

إن دخول الآخر إلى الرقعة الإسلامية وأخذه بزمام الأمور وسيطرته على جميع شؤون الأمة، لم يكن محض صدفة حدثت في التاريخ، وإنما هو مشروع قد خطط له بدقة عالية، إن على المدى القريب، أو البعيد، أو المتوسط. فعلى المدى القريب؛ خطط لكيفية الدخول أولا، وعلى المدى المتوسط، خطط لاستغلال الثروات الطبيعية والبشرية التي يختص بها العالم الإسلامي، وعلى المدى البعيد خطط ليبقى الجسم الإسلامي تحت سيطرة هذا الآخر تابعا له، لتفريغ منتوجاته المادية واستغلاله، فيكون قد دخل أولا بمفكريه، وبجيوشه ثانيا، ليغرس جذوره الفكرية في عناصر من الأمة ليكرس الانحطاط والتبعية له، وهذه هي المرحلة الثالثة، والتي لازالت آثارها مستفحلة إلى الآن، بل وتزداد استفحالا. لكن الأمة حينما دخل الآخر بجيوشه، فقتل، وشرد، واستنزف، وخرب، استيقظت من سباتها، غير أن استيقاظها لم يكن سوى استيقاظ رجل عطشان ليلا، لكنه وجد الهرة قد كسرت الكأس، فنظف الزجاج ولم يشرب وعاد إلى نومه عطشان؛ أعني أنه أخرج المستعمر عسكريا ولم يخرجه فكريا. فقد أرسى المستعمر نموذجه في المجتمعات الإسلامية، حيث استعان في ذلك بإنشاء المدارس والجامعات والإدارات، وكرس سياسات، تتناسب ومنظوره وخلفياته وأهدافه من ذلك الذي أنشأه؛ فتخرج من منشآته طلاب قد أفرغت في عقولهم وأذهانهم نظريات ماركس، وهيجل، وكونت، وغيرهم من أعلام الفكر الغربي، في حين أفرغت من مرتكزات ثقافة الأمة وتراثها، بل غرست في أذهانهم نظرة سوداوية اتجاه تراث الأمة.

هكذا إذن وجدناهم لما توجهوا إلى مجتمعاتهم يقصدون الإصلاح النهضوي، تنكروا لذواتهم، وأقبلوا على المنظومة الفكرية للآخر ينهلون ويغرفون منها بالقدر الذي يريده الآخر لا هم.

لقد غرفوا ونهلوا مناهج للإصلاح تمت صناعتها في المصانع الفكرية الغربية، انطلاقا من واقعهم هم، الذي هو بعيد كل البعد عن واقع أمة الإسلام، وتصوراتها للكون والإنسان والحياة، لكنهم لم يستحضروا هذه الخصوصية، جهلا منهم أو تجاهلا، بل دعوا بكل جرأة إلى التخلص من تراث الأمة والانسلاخ من الهوية، والانجراف وراء الآخر بدواع عديدة منها؛ أن الغرب تقدم ونحن تأخرنا، ولكي نواكب المسيرة، ينبغي أن نقتدي بمن يقود المسيرة، فكانوا بذلك خداما مخلصين للغرب مغتربين عن ذواتهم. لهذا كله دعا مالك بن نبي إلى تأسيس علم الاجتماع الخاص بالعالم الإسلامي.

محمد أمين الخنشوفي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>