خطبة منبرية – التربية على حب النبي


الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، ومَن والاه. أما بعد: فإن من فضل الله عز وجل على هذه الأمّة أن جعلَها آخر الأمم وأفضلَها؛ كما جاء في الحديث: “نحن الآخرون السابقون يوم القيامة”، وجعل نبيَّها أفضل الرسل والأنبياء وخاتَمَهم، وجعل حبَّه صلى الله عليه وسلم دينًا ندين الله عز وجل به، ونتقرَّب به إليه. فكيف تنشأ النفس وتربى على حبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ من وسائل التربية على حبِّ الرسول صلى الله عليه وسلم: > أن يعلم كلُّ مسلمٍ أنه لن يدخل الجنةَ إلا عن طريق اتباع سنته صلى الله عليه وسلم ولا تُقبَل منه عبادةٌ إلا إذا كانتْ موافقةً لما جاء به صلى الله عليه وسلم مشرعًا، أو شارحًا، أو مفصلًا؛ كما قال ربنا جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}. واتِّباع سنتِه يكون بالاقتداء بهَدْيِه وسنتِه وما ثبت عنه. > من وسائل التربية على حب الرسول صلى الله عليه وسلم معرفةُ قدرِه صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل. إنَّ شأنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الله لعظيمٌ، وإن قدرَه لكريمٌ؛ فلقد اختاره الله تعالى واصطفاه على جميع البشر، وفضَّله على جميع الأنبياء والمرسلين، وشرح له صدره، ورفع له ذكرَه، ووضع عنه وِزْرَه، وأعلى له قدرَه. وزكَّاه في كل شيء: وجمع له الفضائل كلها، فقال سبحانه: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }. ثم أخبر عن منزلته في الملأ الأعلى عند رب العالمين، وعند الملائكة المقرَّبين، فقال سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. ثم أمر أهل الأرض من المؤمنين بالصلاةِ والسلام عليه ليجتمع له الثناءُ من أهل السماء وأهل الأرض، فقال سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. > من وسائل التربية على حب الرسول صلى الله عليه وسلم تذكُّرُ رحمتِه ورأفتِه على أمته؛ فالنفس مفطورة على حبِّ مَن أحبها، ومَن أحسن إليها، فمن ذلك أنه كان حريصا على إيمان الناس، وكان يأسف على عدم إيمانهم، فقال له ربه:{لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مومنين}. وجاء عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لكلِّ نبيٍّ دعوةٌ مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختَبِئ دعوتي شفاعةً لأمتي في الآخرة”. وجاء عند البخاري أن رجلاً أصاب من امرأةٍ قُبْلة، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فقال الرجل: يا رسول الله، أَلِي هذا؟ قال: “لجميع أمتي كلِّهم”. ï ومن وسائل تربية النفس على حب النبي صلى الله عليه وسلم تذكُّر شفاعتِه لأمته يوم القيامة في الموقف العظيم، وشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تُنَال بأسباب؛ منها: >
الإخلاص في قول كلمة التوحيد، وذلك عن طريق تحقيق التوحيد لله عز وجل. وعدم الإشراك به؛ فقد جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: “أسعدُ الناس بشفاعتي مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه”.
> الترديد مع الأذان وقول الدعاء الوارد؛ لحديث جابر مرفوعًا: “إذا سَمِعتُم النداءَ، فقولوا مثلَ ما يقول ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سَلُوا الله لي الوسيلة؛ فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكونَ أنا هو فمَن سأل لي الوسيلة حلَّتْ له الشفاعة”
> كثرة صلاة النافلة؛ فقد جاء في حديث ربيعة بن كعب قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سَلْنِي أُعْطِك”، قلتُ: يا رسول الله، أنظرني أنظر في أمري، قال: “فانظرْ في أمرك”، قال: فنظرت، فقلت: إن أمر الدنيا ينقطعُ. فلا أرى شيئًا خيرًا من شيء آخذه لنفسي لآخرتي، فدخلتُ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ما حاجتُك؟”، فقلت: يا رسول الله؛ اشفعْ لي إلى ربِّك عز وجل فليعتقني من النار، فقال: “مَن أمرك بهذا؟”، فقلتُ: لا والله يا رسول الله، ما أمرني به أحدٌ، ولكني نظرتُ في أمري فرأيتُ أن الدنيا زائلةٌ من أهلها، فأحببتُ أن آخذ لآخرتي، قال: “فأعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود”.
> كثرة الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
>ومن وسائل التربية تنشئة الناشئة على حبِّ النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفةُ سيرتِه، وبيان هَدْيِه وخُلُقه، وفضله، وما اشتملتْ عليه هذه النفس من رحمةٍ ورأفةٍ للمؤمنين. كان الزهري رحمه الله يقول: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا. اللهم اجعلنا من أحبابك وأحباب رسولك. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده لا يذكرونه إلا خشعوا واقشعرَّتْ جلودهم، وبكوا، وقال مالك – وقد سئل عن أيوب السختياني: ما حدثتُكم عن أحدٍ إلا وأيوب أفضلُ منه، وقال: وحجَّ حجتين فكنت أرمقه، ولا أسمع منه. غير أنه كان إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه. وقال مصعب بن عبد الله: كان مالكٌ إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغيَّر لونُه، وينحنِي حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك، فقال: لو رأيتُم ما رأيتُ لَمَا أنكرتُم عليَّ ما ترون، ولقد كنتُ أرى محمد بن المُنْكَدِر – وكان سيد القراء – لا نكاد نسأله عن حديثٍ أبدًا إلا يبكي حتى نرحمه. وقال أحدهم لأنس بن مالك رضي الله عنه : أعطني عينيك اللتين رأيتَ بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبِّلَهما. وسئل علي رضي الله عنه : كيف كان حُبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ. رضي الله عن صحابة رسول الله أجمعين فقد تغلغلت محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوبهم فلم يحبوا شيئاً في الدنيا مهما كان أمره ومهما كانت مكانته أعظم من حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أخي الكريم: اعلم أن من أحب شيئاً آثره وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدعياً، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته واتباع أقواله وأفعاله. وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. والتأدب بآدابه في عسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وإيثار ما شرعه وحض عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته. فهل أنت كذلك يا من تدعي حب محمد صلى الله عليه وسلم؟ هل أنت من المُسَلِمين لأمره، الوقافين عند شرعه، المتبعين لسنته، الملتزمين طريقه ونهجه؟ ولْنسألْ أنفسنا أين نحن من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كيف حبنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل هناك دليل وبرهان على صدق حبنا لرسول الله، أم أن الأمر ادعاء لا دليل عليه؟ اللهم اجعلنا من أحبابك وأحباب رسولك. اللهم املأ قلوبنا بمحبتك ومحبة نبيك، اللهم اجعلنا بهديه مهتدين ولسنته مقتدين، وعلى طريقه سائرين.

ذ. عبد العزيز بن ادريس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>