القرآن الكريم والسـلام الاجتماعي1


يتضمن هذا العدد مدخلا إلى المحاضرة وفيه نقطتان:

1 – مقدمة في حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم.

2 – مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي.

هذه الكلمة التي تحمل عنوان “القرآن الكريم والسلام الاجتماعي” دائرة على خمس نقط : النقطة الأولى:

مقدمة في حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم.

النقطة الثانية: مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي.

النقطة الثالثة: مفهوم السلام في القرآن الكريم.

النقطة الرابعة: شروط تحقق السلام الاجتماعي في القرآن الكريم.

والنقطة الخامسة والأخيرة: خاتمة في قوله تعالى: {قل إن هدى الله هو الهدى}.

1 – مقدمة في حاجة الأمة إلى المعجم المفهومي للقرآن الكريم: أيها الأحبة، هذه الكلمات التي أتكلم بها عن كتاب الله تعالى هي من توفيق الله سبحانه وتعالى، وكلما تيسر الكلام في القرآن الكريم، أو عن القرآن الكريم، نشعر بشدة الحاجة إلى دراسة معينة لألفاظ القرآن الكريم أو لمصطلحات القرآن الكريم؛ لأن ذلك الخطوة الأولى في طريق التجديد الصحيح. إذ الأمة قامت انطلاقاً من القرآن الكريم، به كانت وبه فعلت ما فعلت عبر التاريخ، وبه ما تزال باقية، أو ما تبَقَّى منها، كل ذلك بفضل هذا الكتاب العزيز، بعد فضل الله عز وجل. هذا الكتاب لا بد من تجديد الفهم له، وهذا التجديد في الفهم لا بد أن ينطلق من تجديد فهم المفاهيم للألفاظ المركزية، أي للمصطلحات الحاملة للمفاهيم، التي من مجموعها يتكون نسق مفهومي كلي يتضمن هو الآخر عبارة عن النسق الكلي العام لهذا الكتاب. هذه المصطلحات لابد أن تُدرس دراسة خاصة. حتى الآن، وبعد معاناة طويلة وتجربة طويلة، لم يتيسر منهج يمكن به الولوج إلى عالَم هذه المفاهيم، وبدقة كبيرة، لا أعلم منهجا هو مرشَّح كمنهج الدراسة المصطلحية، نوَّهتُ به وأنا أُدرِّس المادة من زمان طيلة ست وثلاثين سنة في الجامعة المغربية، نوهت بعمل الراغب الأصفهاني رحمه الله في كتابه: “المفردات في غريب القرآن” أو “معجم ألفاظ القرآن الكريم” كما طبع في طبعة جديدة. ثم نوهت بعد بعالِم هندي متأخر هو الشيخ عبد الحميد الفراهي وقد صدر له كتاب أصدره له أحد تلامذته الدكتور محمد أيوب الإصلاحي، ربما بهذا العنوان أيضاً: “مفردات القرآن الكريم” ولكنه ليس دراسة لكل ألفاظ القرآن الكريم أو لكل الألفاظ، يعني لكل المصطلحات، درس قليلا من ألفاظ القرآن الكريم ولكنه دل على رؤية وعلى منهج، وهذا الرجل يستحق كل عناية، وما زال لحد الساعة، بسبب ما فعله الغرب بنا، مازال لم يتيسر الاطلاع على جهد هذا العالِم حتى الساعة، الاطلاع الذي يكفي ويشفي. ومن جملة ما ينادي به تكميل أصول البيان في كتيبه الصغير “التكميل في أصول التاويل”، والعنوان مُشعِر بأن أصول التاويل -أي أصول التفسير، حسب فهمه للتاويل- مشعر بأن هذه الأصول لم تتم بعد، فتحتاج إلى تكميل. وظهر أخيراً عالِم ثالث هو الشيخ حسن المصطفوي، أخرج كتابه الكبير الذي طُبع طبعة ثالثة في أربعة عشر مجلدا بعنوان “التحقيق في كلمات القرآن الكريم”. ثم ظهر عالِم رابع بعده، نشر عمله بعنوان “المعجم الاشتقاقي المؤصَّل لألفاظ القرآن الكريم” هو الدكتور محمد حسن حسن جبل من مصر. هذان العملان قيّمان بهذا الميزان الذي به نُظِر إلى عمل الراغب وعمل الفراهي، عملان قيمان وجُهدان متميزان جداً، وقد هدفا معاً إلى أمر واحد تقريبا على اختلاف في المعالجة هو تبيُّن المعنى المحوري لمستعملات ألفاظ كل مادة في القرآن الكريم، وهو هدف نبيل جدا ومعين جدا على تبيُّن المراد من ألفاظ القرآن الكريم. ولكن بما أنه لم يتيسر لهما الوقوف على منهج الدراسة المصطلحية فلم يتطرقا إلى جوانب متعددة مما يتعلق بالوقوف عند الضمائم أو الصفات أو العلاقات وقوفا ممنهجا ينتج عنه بناء المفهوم بناء كاملاً، وأيضاً لم يتطرقا إلى معالجة الألفاظ ضمن نسقها المفهومي. هذا ينتظر رجالا من الجيل الراسخ الناسخ أو ممن انتدبهم الله عز وجل لهذا الأمر لينهضوا به، وما أحسن أن يتعاون أهل العلم وأهل الفضل على أن ينهضوا بمثل هذا العمل الجليل.

2 – مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي : اخترت العولمي بدل العالَمي؛ لأن التداول العالمي لا يشير إلى أن هذا التداول الموجود في العالَم هو من صُنع فِعْل فاعل هو المُعولِم لشيء محلي جعله عالميا بالرغم عن العالَم، العولمة غير العالَمية، وهدف العولمة أن تُصيِّر ما تريد عالمياً ولكن أنى لها ذلك. مفهوم السلام الاجتماعي في التداول العولمي في تقرير رسمي لمنظمة من منظمات السلام وحقوق الإنسان، تُعرِّف ما تتبناه أو ما تقصده من مسألة السلام الاجتماعي في معنى السلام، تقول هناك اتجاهان للنظر بصفة عامة إلى مفهوم السلام:

أولا: السلام هو غياب الخوف والعنف والحرب، ويتبنى دعاة السلام هذا التعريف لمفهوم السلام، ويرى الباحثون في مجال العلاقات الدولية أن السلام يعني غياب الحرب، هذا هو الشائع في الإعلام.

ثانيا: السلام هو الاتفاق، هو الانسجام، هو الهدوء، ووفق هذا التعريف فإن السلام -عكس التعريف السابق- لا يعني غياب العنف بكافة أشكاله، ولكنه يعني صفات إيجابية مرغوبة في ذاتها، مثل: الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق، والرغبة في تحقيق الانسجام في العلاقات بين البشر، وسيادة حالة للهدوء في العلاقات بين الجماعات المختلفة. وانطلاقاً من هذا المعنى للسلام، فإن “مفهوم السلام الاجتماعي” عندما تضاف كلمة الاجتماعي إلى السلام، يقولون: يتكوَّن كل مجتمع من مجموعة من البشر، يختلف بالضرورة بعضهم عن بعض، سواء في انتمائهم الديني أو المذهبي أو موقعهم الاجتماعي أو الوظيفي، ولكن يجمعهم جميعا ما يمكن أن نطلق عليه “العقد الاجتماعي”، وهو التزام غير مكتوب بينهم، يتناول حقوق وواجبات كل طرف في المجتمع، والخروج على هذا العقد يمثل انتهاكاً لحقوق طرف، وإخلالاً بالتزامات طرف آخَر. فالسبب في السلام هو هذا العقد الاجتماعي غير المباشر الذي يُعرف هكذا؛ هو العَقد الذي يتعلق بالقيم والمعايير والمشاعر والاتجاهات، وما هو متَّفق عليه ضمنا بين مختلف الأطراف، والخروج عليه يبعث على الاستنكار. فالسلام الاجتماعي إذن هو هذا السلام الذي يُحققه الالتزام بهذا العقد الاجتماعي غير المباشر، أي العقد الذي يذعن له مجموع أطراف المجتمع بصفة عامة، يذعنون له متعارفين على أنه هو الذي ينبغي أن يخضعوا له وأن يحكمهم وينضبطوا له. أركان السلام الاجتماعي إذن تقوم عن الأمور التالية.

أولا: الإدارة السلمية للتعددية، لا العنفية ولا الحربية، لأن التعدد مقصود، أي أنه واقع.

ثانيا: الاحتكام إلى القانون.

ثالثا: الحكم النزيه.

رابعا: حرية التعبير.

خامسا: العدالة الاجتماعية. إذ لا يمكن أن يتحقق السلام الاجتماعي في أي مجتمع إذا كانت أقليته تحتكر كل شيء، وغالبيته تفتقر إلى كل شيء.

سادسا: إعلان المواطنة.

سابعاً وأخيراً: ذاكرة العمل المشترك، أي يحتاج المجتمع إلى تأكيد مستمر على ذاكرة العمل المشترك حتى لا يكون هاجسُ كل الأطراف الحديثَ عما يفرق الجماعة ويضعفها. هذه أركان السلام الاجتماعي، وهي قائمة على تصور معيّن للمجتمعات البشرية، يفترض فيها التعدد، لأن العناصر المكوّنة للهوية في التصور العولمي – وهذه نقطة مهمة- ليست شيئا واحدا يجتمع عليه الناس، لا، بل هي فيها الطيني وفيها الديني، وفيها من الطيني أنواع، ومن الديني أنواع، الرباني وغير الرباني، جميع ما يُكوِّن يعتبر مكَوِّنا للهوية، وذلك داخل أيضاً في تصور آخر هو تصور شاع في أوروبا ثم صُدِّر إلى العالَم الإسلامي. والقصد من التصدير واضح هو تمزيق الأمة الموحَّدة في أصلها، وهذا الأمر يحتاج إلى دراسة القرون الأخيرة من تاريخ الأمة، ليعرف الإنسان قصة هذه الأوطان وهذه الوطنيات بصفة عامة. وإذا قلنا إن هذا التصور وهذا التداول لمصطلح السلام الاجتماعي هو تداول عولمي، فلأن جهة بعينها هي الحريصة على هذا الأمر لخدمته لمصلحتها خاصة، لأنه يُضعِف سواها ويسمح لها هي بالقوة، ولأنه يسمح لها بالوجود الطبيعي في كل مجتمع، وإن كانت هي في حقيقتها دائمة ضد أي مجتمع للأسف الشديد.

في العدد القادم، ننشر إن شاء الله، النقطة الثالثة المتعلقة ب “مفهوم السلام في القرآن الكريم”.
أ.د. الشاهد البوشيخي
——-
(ü) من محاضرة ألقيت بمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، أعدتها للنشر: “المحجة”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>