334 الأمية في رسول الله: شرف وفي غيره ترح وقرح
اقتضت حكمة الله وسنته في خلقه أن يرسل إلى القوم رسولا منهم يتكلم بلسانهم ويعيش نفس معاشهم بل قد يُربى تحت أكنافهم، حتى لا يقولوا إنما هو مَلِكٌ مالنا بإتباعه من طاقة، ويتكلم بلغتهم حتى لا يقولوا قد ختم على أبصارنا فلا نرى وعلى أسماعنا فلا نسمع.
فكان أن أرسل الله عيسى إلى قوم اشتهروا بالطب، فجاءهم بما بهرهم به في صنعتهم تلك، وكأنه يقول لهم بلسان الحال : إن كنتم اشتهرتم في شفاء العليل فإني أحيي الميت بإذن الله الجليل، وأصنع من الطين طيرا فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله.
وكانت معجزته غير كتاب منهجه، فمعجزته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ومنهجه كتاب الإنجيل.
وكذلك كان موسى إذ أرسل على قوم اشتهروا بالسحر فكان أن بهرهم فيما برعوا فيه، فجاءهم بعصا فأرجعها حية تلقف ما يصنعون، حتى سجد أكابر سحرتهم، وإنه لمن العلم لكل ذي لب وعينين أنه ليس من السهل أن يسجد كبار السحرة في البلاد إثر عرض واحد لا غير، وأنت ترى الدجال ( الحلايقي ) في السوق تخالفه فيكابرك ويشاققك، فسجود السحرة إنما كان لانبهارهم فيما برعوا فيه على يد رجل من غير رجالهم، وعلى شاكلة غير شاكلتهم، فهم يسحرون أعين الناس فقط كالسراب ترمي له بالطرف من بعيد من التيهاء فتظنه بحرا لا ساحل له، وإنما موسى عليه السلام أرجع العصا حية أصلا دون تمتمة ولا زمزمة، وكانت معجزته تلك غير منهجه الذي هو التوراة.
أما رسولنا لما بعثه الله أرسله إلى قوم برعوا في صنع الكلمة وحبك الشعر، حتى إن الأمة التي أرسل فيها هي أول أمة وضعت معرضا للكلمة في سوق يسمى سوق عكاظ، في حين كانت الأمم الأخرى لا تعرف من السوق إلا العبيد والرقيق.
فهو قد أرسل إلى أمة لها جهاز إعلامي قومي قوي يقال له الشاعر، يدافع عن الأعراض ويذود عن البلاد، فكان أن جاءهم هذا الرسول بشيء من صنيعهم وأمر من شاكلتهم ومن جنس حروفهم، يتشكل من نفس الحروف التي يتكلمون بها ليل نهار، جاءهم بكتاب يُتلى على أسماعهم من نفس كلماتهم لكنهم لم يسمعوا به قبلا، وذلك أبلغ التحدي والإعجاز أن يتكلم بنفس ما تتكلم به أنت، لكن ما يلفظه لم يسبق أن دون أو تُلي بل الأدهى من ذلك، أنهم لا يستطيعون حبك مثله ولو كلمات معدودات، فهم قد رأوا بأعينهم ما تراه كل الأعين ولكنهم سمعوا بآذانهم ما لا تسمعه كل الآذان ولا تلفظه كل الألسنة فاللغة عربية والمعنى عجبا.
ومما خالف فيه رسول الله من جاء قبله أن معجزته كانت هي عين منهجه، فمعجزته القرآن وكتابه القرآن.
ومما زادهم انبهارا وشللا في نفس الوقت أن هذا الذي يتلوه عليهم رجل أمي لا يعرف خط اسمه أصلا ولا تنطق بنت شفته بكلمة من دواوين العلم، ولم يدرس على يد بشر ولا ساحر ولا راهب، بل ما سمع أنه ردد بيتا ولا ترنم بشعر قبل البعثة، فهو رسول أمي لا يعرف القراءة والكتابة وليس كما يردد أحد الكتاب البارزين في المغرب بأن الأمي -ولست هنا في محل الرد عليه ولا غيره وإنما هي مسألة وجب تبيانها ليعي من يدري ويفقه من يعلم، فإنها مسألة بيّنها أرباب العلم وأساطين الحجة والبيان – هو الذي يعلم الكتابة والقراءة لكنه غير اليهودي أو غير الكتابي، وليس معناه الذي لا يعرف الكتابة والقراءة، وهذا في الحقيقة من أوابد ما سمع إذ هو مخالفة لقواعد البحث واستحالة في الوقوع قبل الفهم أصلا، إذ الأمي كما عرفه أرباب اللغة وأساطين الكلمة الذين ينخلونها نخلا هو :
- يقول ابن منظور >معنى الأمي المنسوب إلى ما عليه جَبَلَتْهُ أمه، أي لا يكتب، فهو أمي لأن الكتابة مكتسبة فكأنه نسب إلى ما يولد عليه أي ما ولدته أمه عليه<(1).
- وقال الزهري >قيل للذي لا يكتب ولا يقرأ أمي لأنه على جبلته التي ولدته أمه عليها والكتابة مكتسبة متعلمة وكذلك القراءة من الكتاب<(2).
- وقال الراغب الأصفهاني :>الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ من كتاب؛.
- وقال الإمام الطبري : >يعني بالأميين الذين لا يكتبون ولا يقرءون ومنه قول النبي : >إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب<(3)<(4).
وفي قول الله فصل الخطاب {وَمَا كُنْتَ تَتْلُواْ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بَيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ المُبْطِلُونَ}(5). يبين البيان الإلهي أن محمدا صلى الله عليه?وسلم لم يقرأ قبل القرآن كتابا بسبب أميته ولو كان يكتب ويقرأ لارتاب الذين في قلوبهم مرض، ثم إن مجرور و من – إذا كان نكرة يدل على الزمن المطلق عندما يكون منفيا، أي أن النبي لم يكن يعلم القراءة والكتابة ولم يتعلمها لا قبل البعثة ولا بعدها، بل ظل أميا لا يقرأ ولا يكتب حتى توفاه الله.
يقول الشيخ محمد عبد الله دراز :
كفاك بالعلم في الأمي معجزة في الجاهلية والتأديب في اليتم
نعم، إنها لعجيبة حقا، رجل أمي بين أظهر قوم أميين يحضر مشاهدهم -في غير الباطل والفجور- ويعيش معيشتهم، مشغولا برزق نفسه وزوجه وأولاده راعيا بالأجر أو تاجرا بالأجر لا صلة له بالعلم والعلماء، يقضي في هذا المستوى أكثر من أربعين سنة من عمره، ثم يطلع علينا فيما بين عشية وضحاها فيكلمنا بما لا عهد له به في سالف حياته وبما لم يتحدث إلى أحد بحرف واحد منه قبل ذلك، ويبدي لنا من أخبار تلك القرون الأولى مما أخفاه أهل العلم في دفاترهم وقماطرهم.. نعم إن صاحب هذا القرآن لم يكن ممن يرجع بنفسه إلى كتب العلم ودواوينه لأنه باعتراف الخصوم كما ولد أميا نشأ أميا وعاش أميا فما كان يوما من الأيام يتلوا كتابا في قرطاس ولا يخطه بيمينه فلا بد له من معلم يكون قد وقفه على هذه المعاني لا بطريق الكتابة والتدوين بل بطريق الإملاء والتلقين، هذا هو حكم المنطق (6).
فقضية أمية الرسول مسألة ثبت الحكم فيها منذ القدم وأبدى فيها العلماء بقولهم ولا حاجة لأقوالنا فيها، ولا لآرائنا عليها لأنها مسألة خطيرة بالغة الشأن تتطلب الإلمام بالعلوم وهذا مما لا يتوفر فينا نحن اليوم، نحن المسلمون نؤمن بأمية الرسول سواء كان ذلك طريقا لإثبات معجزة القرآن أم لا، بل هي جزء من عقيدتنا والضرب فيها ضرب في عقيدتنا، ولا نسمح لأي أحد كيفما كان أن ينازع هذه المسألة أو أن يشكك في عقيدتنا مهما كان وبأي صفة جاء بها، وكان الأولى أن توجه مثل هذه الجهود في درء وفضح ما يكاد للإسلام، لا التشكيك في أصوله، فالذين زاولوا تلك المهمة أنقضت أعمارهم وسجلهم التاريخ في مكان لا يذكرهم دارسه إلا بشر.
وقد علمت فيما مضى أن رسول الله بالأمية أرسل وبعث، فكانت محط شرف وعز له، ولا شك ولا ريب في ذلك أما أن يخرج علينا من لا ينازع القلم والقرطاس، وينسب لنفسه الشرف والعز بأميته مقتديا فيها بالنبي الأمي فإنه مما لم يقل به عاقل ولم ينطق به واع، إذ ما نطق بهذا صحابته الكرام على أن ينطق بها من بينه وبين رائحته الشريفة خمسة عشر قرنا أو يزيد، والنداء في البشر بالأمية من بعيد كالقنينة تطرق فتدوي صوتا عاليا، وليس يجاوز بؤبؤها ماءا ولا شيئا غاليا، فإنما تصدح بالفراغ، وما كان لرسول الله وهو النبي الأمي أن يقبل في أمته أميا واحدا وهو الذي افتدى الأرواح بالعلم وأحاط شخصه الشريف بالكتبة والحفظة وفضل بعضهم على بعض في الدفن بمقدار الحفظ.
نحن أمة أول كلمة نزلت في كتابها (اقرأ ) ولا حاجة بنا لشخص ينافي نداء الرحمن، إذ كيف يليق به النداء وضرورة النداء العلم بالمنادى، فما له حق بالجلوس للنداء أصلا، إذ هو ممن لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وما حق له الوجود في مكان هو لغيره أنسب، ألا ترى لرسول الله وهو يبني المسجد حينما قال : >قدموا اليمامي من الطين فإنه من أحسنكم له مسا<(7) فالرجل المناسب في المكان المناسب، وما كانت الأمية في غير رسول الله عز وشرف بل كانت ذلة وعار، وما كان لرسول الله أن يفخر بمثل هؤلاء يوم القيامة، إنما يفخر بما يقال له يوم القيامة بأول كلمة صدحت بها أنوار السماء على رسول الله : >اقرأ وارق فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها<(8) فأين منزلة الذي لا يعرف القراءة، ومما حفظته لنا كتب التاريخ أن رجلين من علية القوم سافرا للحج في موكب كبير، فلما كانا ببعض الطريق أناخ الموكب رحله للاستراحة، فهم الرجلين بلعب الشطرنج، فإذا بأعرابي قد قصدهم فغطى الرجلين اللعبة وسألوا الأعرابي : هل تحفظ من القرآن شيئا؟ قال : لا، هل تحفظ من الحديث شيئا؟ قال : لا، هل تحفظ من الشعر والأنساب شيئا؟ قال : لا ن فأزاح الرجل الغطاء عن اللعبة وقال لصاحبه : العب فليس معنا أحد.
والرجل إن لم ينظر إلى الأمام كان للخلف أقرب وإن لم يصعد كان للسقوط أوشك، وما النظر إلى الأمام في عصر الذرة والمعرفة والتنمية إلا بالعلم، وإلا لما كان لنداء المغاربة بمحو الأمية من سبيل أو من وجه حق في خضم تواجد مثل هذه الأفكار، ولكان الطيران بالأمي أولى منه بالربان الذي أفنى حياته وهو يتدرب على طائرة بويينغ أرضية لا تطير، ولكانت صلاتنا خلف من لا يفرق بين العصا والألف خير من صلاتنا خلف من أردى عمره في حفظ القرآن والمتون ودراسة الأحاديث، أو لما كان للجهل بحقيقة الترقيع في الصلاة من مبطلاتها مع العمد طبعا، ولكانت تولية أبي بكر لرجل غير زيد في جمع القرآن أولى منه بغيره، وقد سيره رسول الله قائدا على جيش فيه أبو بكر وعمر، وإن كانت الأمية شرفا للناس لما كان لله من ولي، أو كما قال الشافعي : >إذا لم يكن لله من العلماء ولي فليس لله ولي< وما كانت عبادة الله بالعلم أولى منها بالجهل، فذو جهل في التراب مدفون وذو علم في الثريا مرفوع، أما ترى الرجل الأمي المعتز بأميته يستطيع حساب ماله وإخراج زكاته، ولما كان رفع الله للمتعلم على غيره درجات من فائدة. ولله در من قال :
كن عالما وارض بصف النعال
ولا تكن صدرا بغير الكمـال
فـإن تـصدرت بلا آلـة
صيرت ذاك الصدر صف النعال
فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، حتى في القبور ورب الكعبة، فاستواؤهم ظاهرا لا باطنا، فذو علم في الجنات يرتع وذو جهل في جهنم يركع.
وهل كان قول “ليبيري” حلما حينما قال لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ لتأخرت نهضة أوروبا الحديثة عدة قرون ] أم إن العرب شمخوا بالأمية من بين رؤوس جبال مكة.
ولذلك صح القول :>الأمية في رسول الله شرف وفي غيره ترح وقرح<.
—————-
1 – لسان العرب 12/34.
2 – الزاهر 1/109.
3 - متفق عليه : أخرجه البخاري في صحيحه حديث رقم : 1914 ومسلم حديث رقم : 1080.
4 – تفسير الطبري 1/373.span>
5 – سورة العنكبوت الآية : 48.
6 – النبأ العظيم ص: 66 – 85.
7 – صحيح : أخرجه الألباني في صحيح الموارد، رقم : 261.
8 - حسن صحيح : رواه الترمذي حديث رقم : 2914.