ذَكرْنا في العدد السابق من هذا العمودِ لمحات عامة عما يعانيه التعليم في بلادنا. وبالتأكيد فإن تشخيص الدّاء أول خطوة لوصف الدواء المناسب، كما أنه من المؤكّد أيضا، أن ما يعانيه التعليم ببلادنا يتنوع بين ما هو ظاهر جلي، يعلمه ربما القاصي والداني، وإن لم يكن البعض يدرك دوره في تقويض دعائم المستوى التربوي والمعرفي للتعليم، وبين ما هو مستور خفي قد لا يعْلمُه إلا من يزاوِل “سِرّ المهنة”. ومما هو معروف لدَى الخاص والعام -وإن كان الكثير لا يشعر بخطورته- ما يتعلق بالغش في الفروض والامتحانات، حيث أصبح الغش ديدن أطراف ثلاثة لا يهمهما إلا الربح معنويا كان أم ماديا.
> فالتلميذ همّه الحصول على النقط بأي ثمن كان، وبأي وسيلة كانت، لأنه يعتقد اعتقاداً راسخا أنه بالحصول على هذه النقط سيكفيه الكثير من “الشرور”: – “شر” الإعداد والاستعداد بالعمل الجاد، من أجل الفهم والتحصيل. – “شر” النظرة الدونية من زملائه، أو التوبيخ من والديه. – “شر” الحرمان من الولوج إلى ما زُيِّن له أنه الصواب من التخصصات العلمية الدقيقة.
> والآباء أيضا همُّهم الأكبر أن يكون أبناؤهم متميزين في دراستهم بالحصول على نقط عالية، وليس بحسن التحصيل المعرفي والتربوي، حتى إنهم يفْرَحُون غاية الفرح حينما يخبرهم أبناؤهم بأنهم تمكنوا من الغِش دون أن يُضبطوا، بل إن من الآباء من يسعى إلى ذلك سعيا بالقيام بنفسه بالتصوير في آلات النسخ التي توجد بمكتبة في الإدارة.
> وتُجار النسخ والتصوير همهم الوحيد الربح المادي بالتنافس في إخراج المقررات الدراسية في مختلف الحُلَل والأشكال. علما أنه لابد من الإشادة بأولئك الذين تمنعهم أخلاقهم وقيمُهم، النزول إلى هذا المستوى المنْحط بالتجارة في ما هو مُحرّم، أو على الأقل في ما يُسْهم في تدمير بنية التعليم والتربية ببلادنا فيرفضون نسخ أي شيء له علاقة بالغش. ومما هو معروف أيضا لدى الجميع ما تعرفه الأقسام من اكتظاظ، يكاد في كثير من الأحيان يودى بالعملية التعليمية كلها. ففي الوقت الذي تتحدث فيه الأرقام العالمية وقيم التدريس الدولية عن أن جودة التعليم رهينة بالعدد المحدود من التلاميذ والطلبة داخل القسم، وخاصة في التخصصات العلمية الدقيقة، نرى أن أقسام مؤسساتنا المدرسية والجامعية تعاني الكثير من الاكتظاظ. بل ما لنا نذهب بعيداً ونحن نرى أن المؤسسات الخاصة ببلادنا تتنافس فيما بينها ثم بينها وبين التعليم العمومي في عدد من المعايير، من أهمها محدودية عدد الطلبة في كل قسم. بل أكثر من ذلك كانت وثائق الإصْلاح التعليمي والجامعي تتحدث في ديباجاتها عن أنّ عدد الطلبة لا ينبغي أن يتجاوز الثلاثين في كل قسم. صحيح أن الاكتظاظ ليس عامِلاً حاسماً في ضعف مردودية التعليم، خاصة إذا نظرنا إلى عدد من البلدان الفقيرة في العالم، وأن جودة التعليم يمكن أن تتحقق مع وجود الاكتظاظ، لكن ظروف واقعنا التعليمي المنحطة إذا أضيف إليها عامِل الاكتظاظ فإن الوضع يصبح غير مُحْتمل، فضلا عن أننا لا يمكن أن تقارن أنفسنا بما هو موجود في العديد من الدول التي تعاني من الفقر ومصائب أخرى، نسأل الله تعالى أن يحفظ بلادنا منها، ويُْبعد كل من يريد بها فساداً، وهو -لجهله- يحسب أنه يحسن صنعا.
د. عبد الرحيم الرحموني