مع كتاب الله عز وجل – العلم بالله أولاً:الثمرة الأولى للغيث الأول


تعيش الأمة المسلمة اليوم مرحلة تاريخية حرجة جدا، وربما تكون أحرج مرحلة في تاريخها على الإطلاق؛ فلقد بلغ بها الضعف مبلغه، وانهارت عزائهما، وتناثرت آراؤها، فتداولتها المخاطرُ من كل صوب، وتداعى عليها الأكلة من كل جانب، فأحاطوا بها وأقبلوا عليها بالنهب والنهش؛ فغَدَت جراحها غائرة متمادية، وتوالى النزيف دفاقا منذرا بالفناء، وفي خضم هذا الهول المروع قام الدعاة والمصلحون يُحذِّرون ويُنذِرُون، وينادون الناس إلى سفينة النجاة، فبُحَّت حناجرهم من شدة النداء والصراخ، وتقطعت أكبادهم حزَنا على شدة الغفلة في أبناء الأمة وعمقها وسعة انتشارها فيهم شبابا وشيبا، رجالا ونساء، رؤوسا وأتباعا. فجزى الله تعالى أولئك الأبرار الذي شَرُفوا بوراثة خير الوظائف من خيار الخلق وهم الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام. لقد بدأ صنع ذلك النبي الأمي الكريم بالوحي، في غار حراء على يد جبريل عليه السلام، بعد أن غطه حتى بلغ منه الجَهْد، وفعل به ذلك ثلاثا حتى يُخْلِيَه من أي شيء يشغله عن التلقي الخالص التامّ، وحتى يَشُدَّ انتباهَه إلى ما يُلقَى إليه. حتى إذا فَرَغ الملَكُ الكريم من الإلقاء رسخت الآيات الطيبات في قلبه، ((فرجع بهن يرجف فؤاده)) كما تقول بنت الصديق أم المؤمنين رضي الله عنها في حديث بدء الوحي(1). وكان ذلك حدا فاصلا بين مرحلتين كبيرتين في حياته صلى الله عليه وسلم : {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا، ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}(الشورى : 52). وكان أيضا للبشرية جمعاء حدا فارقا بين عهد الجاهلية والضلال وعهد العلم والإسلام.

وقد ذكر الله تعالى في عدة مواضع من القرآن أن هذا الكتاب جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وكفى بهذه نعمة ومنفعة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. إن الأمة اليوم -في ظل هيمنة الكفر، وطغيان الهوى، وغلبة الفساد، وانتشار الجهل، وغربة العلم والإيمان- تحتاج أشد ما تحتاج إلى من يمد إليها حبل النجاة، ويمدها بمفتاح الخروج من الظلمات إلى النور، ومن الغمة إلى السرور. ولا يتصور ذلك إلا بهذا الكتاب المشتمل على العلم الحق، والهداية الشاملة، والحل الكافي، والدواء الشافي، والخير الكثير، والنفع العميم. قال الله عز وجل: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}(إبراهيم : 1). وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِه))(2). وبذلك استقر عند الأمة أن أمرها مؤسس على العلم؛ يقول محمد بن سيرين: ((إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ))(3). إن القرآن الكريم هو العلم ومصدر العلم وخزان العلوم؛ ذلك بأنه كلام الله، النازل بعلم الله، {فَإِن لمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ انتُمْ مُسْلِمُونَ}(هود : 224). ولا شك أن أشرف العلم هو العلم بالله عز وجل، ولذلك بدأ الله تعالى به في أول ما أنزل من القرآن. فقال عز من قائل: {اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}(العلق : 1- 5).

ويمكن تقسيم الكلام في تأمل هذه الحقيقة العظيمة من خلال تلك الآيات الكريمة كما يلي:
1- أن الأمر في هذه المرحلة من الوحي لم يتجه إلى جهة التكليف بأي صورة من صوره العملية التطبيقية كالصلاة مثلا في مجال العبادات، وكالإشهاد في مجال المعاملات، وكجلد الزاني في مجال الحدود. وإنما اتجه الأمر إلى جهة التعرُّف والتعريف، وجاءت الآيات منبهة على أن السبيل المباشر إلى التعرُّف هو القراءة، ثم أكدت ذلك بأن قدمت أول نص مقروء متمحض للتعريف بالله عز وجل.
2- أن الأعمال والتكاليف إنما تكون حقيقتها في الواقع بحسب ما يحمله الإنسان القائم بها في كيانه الداخلي. وخلاصة هذا المحمول هو ما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((…ألا وإن في الجسدِ مُضغَةً، إذا صلَحَتْ صلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فسَدَتْ فسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلبُ …))(4).
فالقلب هو موطن العلم وموطن النية وموطن الإرادة وموطن العزيمة، وموطن القدرة، أي هو مخزن الطاقة الدافعة للجسد كله تبعا للمجالات التي يتحرك ضمنها في الخارج. وهذا يعني أن أي إشكال في ما يُرَى من الأعمال إنما مرجعه إلى ما لا يُرَى من الأحوال. ولمَّا كان العلمُ هو من أشرف ما يختص به القلب، وكان أشرف العلم ما تعلق بالله عز وجل، فلا شك أنه كان هو الأولى بأن يكون به البدء والافتتاح.
3- أن تخصيص هذا المخلوق الذي هو الإنسان بالعلم والتعليم، بعد ذكر مجمل الخلق: {..الذي خلق، خلق الإنسان… علَّم الإنسان..}، يدل على أن العلم هو من أهم ما يميز هذا المخلوق عن غيره من المخلوقات. غير أن العلم الذي يرقى بهذا المخلوق إلى أعلى المراتب إنما هو العلم الأعلى النازل من رفيع الدرجات ذي العرش جل جلاله، وذلك في حال كونه نصا، أو هو الموصول بذلك العلم في حال كونه استنباطا وفهما وفكرا. ومن هنا يمكننا أن ندرك بعض السر في تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان في سورة الرحمن، مع أن خلق الإنسان سابق، وذلك لتنبيه اللبيب على أن وجوده الحقيقي إنما يكون بهذا القرآن؛ فكما أن الله تعالى هيأ له الكون المنظور قبل خلقه لتتم له أسباب المعاش، كذلك وضع له الكتاب المقروء قبل إيجاده لتتم له الهداية إلى أحسن المناهج، كما قال عز وجل: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 9). وفي هذا المقام يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى: “ابْتَدَأَ بتعليم القرآن، ثم بخلق الإنسان، ثم بتعليم البيان، ولم يُدخِل الواوَ فيما بينها. وكان الوجه على متعارف الناس أن يقول: خلق الإنسان، وعلمه البيان، وعلمه القرآن. فإن إيجاد الإنسان بحسب نظرنا مقدم على تعليمه البيان، وتعليم البيان مقدم على تعليم القرآن، ولكن لما لم يُعَدَّ الإنسانُ إنساناً ما لم يتخصص بالقرآن، ابتدأ بالقرآن، ثم قال: {خلق الإنسان} تنبيها على أن البيان الحقيقي المختص بالإنسان يحصل بعد معرفة القرآن. فنبه -بهذا الترتيب المخصوص، وترك حرف العطف منه، وجعل كل جملة بدلا مما قبلها لا عطفا- على أن الإنسان ما لم يكن عارفا برسوم العبادة ومتخصصا بها لا يكون إنسانا، وأن كلامه ما لم يكن على مقتضى الشرع لا يكون بيانا”(5).
4- أنه لما كانت طبيعة رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عالمية في توجهها، مستوعبة -بِشِرْعَتِها ومنهاجها- للزمان والمكان والإنسان إلى قيام الساعة، فلا شك أن البدء بالتعريف بالرّبِّ عز وجل يعني أن تلك الرسالة جاءت لترد جميع العباد إلى خالقهم بعد أن اجتالتهم الشياطين عن دينهم وفطرتهم وحنيفيتهم. فقوله تعالى: {ربك الذي خلق} يفيد أن أي مخلوق فالله تعالى هو ربُّه لأنه هو الذي خلقه، فهو ربُّ محمدٍّ صلى الله عليه وسلم وربُّ كل مخلوق. ثم نُصَّ على خلق الإنسان تنبيها على قيمته بين سائر المخلوقات وأنه كيفما كان شكله أو جنسه أو مكانه أو زمانه أو لونه أو لسانه مطالب بملاحظة ذلك الموقع المتميز في ساحة المخلوقات، ومعنى ذلك أنه هو الأولى بالشعور بعلاقة الربوبية التي تربطه بالله عز وجل. فهو مربوب له بما أنعم عليه من نعمة الخلق أولاً، ثم بما أفاض عليه من النعم التي لا تحصى: {أفمن يخلق كمن لا يخلق؟، أفلا تذكرون؟ وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، إن الله غفور رحيم}(النحل : 17- 18).

د.مصطفى فوضيل
—————
1 – رواه البخاري وغيره
2 – أخرجه البخاري في كتاب العلم.
3- رواه عنه مسلم في المقدمة، باب بيان أن الإسناد من الدين..؛ والدارمي في المقدمة، باب في الحديث عن الثقات. والعلم هنا كما ترى يقصد به علم الحديث، ولكن قول ابن سيرين يصح في كل علوم الشرع.
4 – رواه البخاري.
5 – تفصيل النشأتين ص 150- 151.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>