خطبة منبرية – لا إصلاح للتعليم إلا باللغة العربية


الخطبة الأولى

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أنه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. عباد الله: كثر في هذه الأيام الحديث عن إصلاح التعليم، وذهب قوم إلى أن كلمة السر في ذلك هو أن يكون باللهجة الدارجة العامية، ولا يشك عاقل بله عالم أن هذا كلام تافه، ورأي ساقط، تراد به أشياء أخرى، يعرفها من يعرف أصحابها، ولكنها مناسبة لنتحدث عن العربية: أشرف لغة، وأفصح لسان.
معشر الصالحين: لا يخفى أن العربية هي لسان الوحي قرآنا وسنة، قال الله تعالى : {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} وقال {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون} وقال {وَإِنه لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين نَزَلَ بِهِ الروحُ الْامِينُ عَلى قَلْبِك لِتَكونَ مِن الْمنذِرِينَ بِلِسان عربِي مُبِين} والدعوة إلى إقصاء العربية من التعليم دعوة إلى قطع الصلة بالقرآن الكريم تماما، إذ من لم يتعلم اللسان العربي لا يمكنه أن يقرأ القرآن الذي أنزل بلسان عربي مبين، والأمر نفسه مع سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن من لم يتعلم العربية لا يمكنه أن يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن كون حضارة الأمة وتاريخِها وعلومِها ومعارفها وجميع ما أنتجته وأبدعت فيه كتب بلسان عربي، والدعوة إلى اللهجة الدارجة دعوة إلى قطع الصلة بتلك الحضارة كلها، وإلقاء التراب على أربعة عشر قرنا من الإنتاج والعطاء المتميز، وإقباره إلى الأبد.
ثم إن الدعوة إلى العامية ليست شيئا جديدا فقد دُعي لها في زمن الاستعمار المباشر، في المغرب وعدد من البلاد الإسلامية، وهؤلاء الذين يتبنونها اليوم إنما ينفخون في رماد أسيادهم المستعمرين، ويحاولون زرع الروح في تركتهم، وهي دعوة تتسق مع ضعف مساحة تعلم العربية في التعليم الحالي بمستوياته المختلفة، وتتسق مع الدعوة إلى التعدد اللغوي والانفتاح على لغات الآخر إلى درجة أن أطفالنا يتعلمون الفرنسية والأنجليزية في رياض الأطفال. عباد الله: إن العربية لسان دين وليست لغة قوم، إنها لسان عبادة، بها نفهم عن الله، وبها نصلي لله، وبها نقرأ كلمات الله، ثم إنها وعاء حضارة، وعاء تاريخ، وعاء علوم كثيرة،.. روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تفقّهوا في السنّة وتفقّهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي” وروي عنه: تَعَلموا الْعَرَبِيّةَ، وَتَفَقَّهوا فِي الدّين، وروي عنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ: ((تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ)). يقول الإمام الشافعي: “على كل مسلم أن يتعلّم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد به أن لا اله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهّد وغير ذلك، ومهما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته وأنزل به آخر كتبه، كان خيراً له”. ونقل عن بعض العلماء: ((من أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم ومن أحب رسوله العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب العربية التي نزل بها أفضل الكتب… ومن أحب العربية عُني بها وثابر عليها وصرف همّته اليها، ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للايمان اهتم بها كاهتمام تحصيل زاده لنفسه. وقد نقل عن غير واحد من العلماء أن العربية من الدين، وأن معرفتها فرض واجب، فان فهم القرآن والسنّة فرض، ولا يفهم إلاّ بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب. عباد الله: سئل أبو الوليد ابن رشد رحمه الله عمن قال إنه لا يحتاج إلى لسان العرب فقال ما نصه: “هذا جاهل فلينصرف عن ذلك وليتب منه فإنه لا يصح شيء من أمور الديانة والإسلام إلا بلسان العرب يقول الله تعالى: {بلسان عربي مبين} إلا أن يرى أنه قال ذلك لخبث في دينه فيؤدبه الإمام على قوله ذلك بحسب ما يرى فقد قال عظيما”. إنه أمر عظيم وخطير، فانتبهوا رحمكم الله لهذا، وبالله التوفيق.
الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه والتبعين: عباد الله: إن شرف العربية واضح، وفضلها لائح، من دعا إليها، وجاهد بعلمه وماله في سبيلها شرف بشرفها، وارتق أعلى الدرجات بفضلها، لأن الله شرفها فأنزل بها كتابه، وأرسل بها رسوله، فحازت الشرف والفضل، قال بعض أهل التفسير عند قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه. فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكما، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيا، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين. ولقد بلغ من حب العلماء للعربية إلى درجة وجدنا معها البيروني رحمه الله يقول: والله لأن أهجى بالعربية أحب اليَّ من أن أمدح بالفارسية، مع أن الفارسية كانت لغة قوم من المسلمين.
عباد الله: إن التخلي عن العربية مذلة، وتركها مهانة، قال بعض العلماء “ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكاماً ثلاثةً في عملٍ واحدٍ: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجناً مؤبّداً، وأمّا الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محواً ونسياناً، وأمّا الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرُهم من بعدها لأمره تَبَع” أيها المسلمون: هذه لغة دينكم تستنجدكم، تعلموها وعلموها النس، على أصحاب المال وأصحاب القرار أن يفتحوا مراكز تعلم العربية في كل مكان، وأن يجعلوها في جميع المستويات، وعلى كل طالب علم أن يجتهد في تعلمها حتى يتعلم دينه، ويعرف شريعته.

د. امحمد العمراوي من علماء القرويين

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>