خطبة منبرية – الحسد وأضراره على الفرد والمجتمع 2


الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله، واشكروه على نعمه، فقد فضلكم على كثير من عباده. هناك خصلة ذميمة من الخصال القبيحة التي حذركم الله منها، فطهروا أنفسكم من الاتصاف بها، ألا وهي خصلة الحسد التي هي من أعظم خصال الشر، فقد حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ” لا تحاسدوا ولا تناجشوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا”(رواه الشيخان)، وقال: “دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء”(رواه أحمد)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”(أخرجه أبو داود والبيهقي) والحسد صفة شرار الخلق، فقد اتصف به إبليس، فحسد آدم لما رآه فاق الملائكة؛ حيث خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه جنته، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها. والحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلمًا، لما وهبه الله النعمة وتقبل القربان، وقد قص الله خبرهما في القرآن الكريم تحذيرًا لنا من الحسد وبيانًا لعواقبه الوخيمة، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(المائدة :27/30). والحسد صفة اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله تعالى، وحسدوا هذه الأمة على ما منَّ الله به عليها من الهداية والإيمان، قال تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}(البقرة :108). عباد الله: الحسد هو كراهية وصول النعمة إلى الغير، سواء تمنى زوالها أم لم يتمنَّ ذلك، وله من الآثار السيئة ما لا يحصى، فمنها: أن فيه اعتراضًا على الله في قضائه، واتهامًا له في قسمته بين عباده؛ لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما آتاه الله، وأن غيره أولى منه. ومنها أن الحاسد منكر لحكمة الله في تدبيره، فهو سبحانه يعطي ويمنح لحكمة بالغة، والحاسد ينكر ذلك. ومن آثار الحسد أنه يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، يقول النبي: “لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا”. (والتناجش هو: الزيادة في السلعة دون الرغبة في شرائها). – ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن المحسود بأي طريق ولو بقتله، كما قص الله تعالى علينا في الآية السابقة من سورة المائدة. – ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قبول الحق إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه. – ومن أضراره أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة، فيغتاب المحسود ويسعى فيه بالنميمة، وهما خصلتان قبيحتان وكبيرتان من كبائر الذنوب. – ومن أضرار الحسد أنه يذهب بالحسنات والأعمال الصالحة، كما في الحديث: “إياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب”. – ومن أضراره أن الحاسد لا يزال في همّ وقلق وغيظ لما يرى من تنزل فضل الله على عباده، يقول معاوية: (ليس من خصال الشر أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود). قال علي رضي الله عنه : “الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له”. وقيل: “الحسود غضبان على القدر”. ويقال: “ثلاثة لا يهنأ لصاحبها عيش: الحقد، والحسد، وسوء الخلق”. وقيل: “بئس الشعار الحسد”، وقيل لبعضهم: ما بال فلان يبغضك؟ قال: لأنه شقيقي في النسب، وجاري في البلد، وشريكي في الصناعة، فذكر جميع دواعي الحسد. وقال أعرابي: “الحسد داء منصف، يفعل في الحاسد أكثر من فعله في المحسود”، قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله. فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي أولاكم إياها، وتذكروا حكمته في الإعطاء والمنع، ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وسنة نبيه الكريم آمين والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة. واعلموا أن الحسد آفة الحساد، ومرض مهلك للأكباد، مدمر للجماعات والأفراد، يهلك صاحبه قبل المحسود. قال الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمة الله تعالى عليه: “يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود:

أولاها: غم لا ينقطع.

الثانية مصيبة لا يؤجر عليها.

الثالثة: مذمة لا يحمد عليها.

الرابعة: سخط الرب سبحانه.

الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق“. أيها المؤمنون : يُحكى أن رجلاً من العرب دخل على المعتصم فقربه وأدناه وجعله نديمه، وصار يدخل على حريمه من غير استئذان، وكان له وزير حاسد، فغار من البدوي وحسده، وقال في نفسه: إن لم أحتل على هذا البدوي في قتله، أخذ بقلب أمير المؤمنين وأبعدني منه، فصار يتلطف بالبدوي حتى أتى به إلى منزله، فطبخ له طعاماً وأكثر فيه من الثوم، فلما أكل البدوي منه قال له: احذر أن تقترب من أمير المؤمنين فيشم منك فيتأذى من ذلك، فإنه يكره رائحته، ثم ذهب الوزير إلى أمير المؤمنين فخلا به وقال: يا أمير المؤمنين! إن البدوي يقول عنك للناس: إن أمير المؤمنين أبخر (يعني ذا رائحة كريهة)، وهلكت من رائحة فمه، فلما دخل البدوي على أمير المؤمنين، جعل كمه على فمه مخافة أن يشم منه رائحة الثوم. فلما رآه أمير المؤمنين وهو يستر فمه بكمه قال: إن الذي قاله الوزير عن هذا البدوي صحيح، فكتب أمير المؤمنين كتاباً إلى بعض عماله يقول فيه: إذا وصل إليك كتابي هذا فاضرب رقبة حامله. ثم دعا البدوي ودفع إليه الكتاب وقال له: امض به إلى فلان، وائتني بالجواب، فامتثل البدوي ما رسم به أمير المؤمنين، وأخذ الكتاب وخرج به من عنده، فبينما هو بالباب إذ لقيه الوزير فقال: أين تريد؟ قال: أتوجه بكتاب أمير المؤمنين إلى عامله فلان، فقال الوزير في نفسه: إن هذا البدوي يحصل له من هذا التقليد مال جزيل، فقال له: يا بدوي ما تقول فيمن يريحك من هذا التعب الذي يلحقك في سفرك، ويعطيك ألفي دينار، فقال: أنت الكبير، وأنت الحاكم، ومهما رأيته من الرأي أفعل، قال: أعطني الكتاب فدفعه إليه، فأعطاه الوزير ألفي دينار، وسار بالكتاب إلى المكان الذي هو قاصده، فلما قرأ العامل الكتاب أمر بضرب رقبة الوزير، فبعد أيام تذكر الخليفة في أمر البدوي، وسأل عن الوزير، فأخبر بأن له أياماً ما ظهر، وأن البدوي بالمدينة مقيم، فتعجب من ذلك، وأمر بإحضار البدوي فحضر، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة التي اتفقت له مع الوزير من أولها إلى آخرها، فقال له: أنت قلت عني للناس إني أبخر؟ فقال: معاذ الله يا أمير المؤمنين أن أتحدث بما ليس لي به علم، وإنما كان ذلك مكراً منه وحسداً، وأعلمه كيف دخل به إلى بيته وأطعمه الثوم وما جرى له معه، فقال أمير المؤمنين: قاتل الله الحسد ما أعدله، بدأ بصاحبه فقتله، ثم خلع على البدوي، واتخذه وزيراً، وراح الوزير بحسده. عباد الله: من رأى شيئًا يعجبه في هذه الحياة الدنيا فليتذكر ما أعد الله جل جلاله للمؤمنين في الآخرة، وليقل كما قال النبي: “اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة”، وليسعَ في إزالة ما في نفسه من الحسد بأن يتذكر ضرر الحسد في الدين والدنيا، وأنه لا يضر المحسود، وليتذكر أن الأمور بيد الله عز وجل، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وليسأل الله من فضله، ولينظر إلى من هو أسفل منه، فإنه أجدر أن لا يزدري نعمة الله عليه. نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يحفظنا وإياكم من الحسد ومن شر كل حاسد…

د. عبد اللطيف احميد


اترك رداً على جادالله جادالمولى حامد إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

2 thoughts on “خطبة منبرية – الحسد وأضراره على الفرد والمجتمع