مما لا يحتاج إلى برهان عند العقلاء، النظر إلى جريمة الزنا، باعتبارها من أشد المعاول فتكا بسفينة المجتمع، وقدرة على تسريع جنوحها نحو التآكل والفساد والانهيار، إلى الحد الذي يمكن القول معه: إننا لو افترضنا أن المجتمع كان خلوا من جميع أصناف المعاصي والموبقات، ولم يكن به إلا فاحشة الزنا، لكانت كافية لجره نحو البوار والاندثار، فما بالك إذا كانت تلك الفاحشة جزءا من “منظومة” كبرى من المفاسد والمهلكات.
ونظرا لخطورة الزنا وشناعته، وسوء عواقبه على سفينة المجتمع، فقد حذر منه الإسلام أيما تحذير، وهيأ من شرائعه وقيمه وآدابه ما هو بمثابة الحصن الحصين، الذي يذود عنها غوائل العدوان، ويضمن لها قوة تماسك البنيان.
إن شريعة الإسلام وهي تؤسس لمجتمع الطهر والعفاف، وتضع لتجسيده في عالم الناس جملة متكاملة من القواعد والمبادئ والأحكام، تأخذ في الحسبان جميع الدقائق والجزئيات، وتتخذ جميع الاحتياطات، بما يكون كفيلا بدرء أي تكون أو تخلق لجراثيم الزنا، فمن إعجاز الإسلام التشريعي في هذا الباب، أنه لم ينه عن الزنا فقط، ولكن عن مجرد الاقتراب منه، والذي يتخذ أشكالا عديدة ومتنوعة، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: لا تزنوا، ولكنه قال، جل وعلا، : {ولا تقربوا الزنا، إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا}، لأن الشارع الحكيم جلت قدرته، وهو العليم بمن خلق، يمكننا من النفاذ إلى أسرار انحراف الفطرة، وأن من بين هذه الأسرار، أن الجرائم والانحرافات، وفساد الطبائع قبل ذلك، لا تحصل دفعة واحدة، وإنما خطوة خطوة، وجرعة جرعة، حتى تصير إلى أشنع صورها، شأنها في ذلك شأن الران الذي يتشكل في القلوب جراء تراكم المعاصي والذنوب، وإذا كانت هذه الخاصية تنطبق على مختلف أنواع الجرائم التي نهى عنها الإسلام، فلعل جريمة الزنا تتميز من ضمن تلك الجرائم كلها، بقدر كبير من الحساسية والشراسة، جعلها تحظى بترسانة صارمة وكبيرة من الأحكام والآداب، التي يحول تطبيقها دون التكون والظهور، فضلا عن التضخم والاستشراء، فمن أمر الله عز وجل المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار، إلى أمر النساء بحجب مفاتنهن عن الرجال، إلى النهي عن الخلوة بين هؤلاء وأولئك، إلى النهي عن الاختلاط بين الذكور والإناث، إلى تحريم كل ما من شأنه أن يهيج الغرائز و يحرك مكامن الشهوة، في ظل بيئة تربوية تتكامل فيها مؤسسات التشكيل والبناء، في إطار من الرؤية الحضارية الموحدة القائمة على نشر رسالة السماء، كهدف أسمى، تتضافر على إنجازه الأجيال.
ومن بديع فلسفة الإسلام ومظاهر العمق في رؤيته المتعلقة بمحاربة جريمة الزنا، أن يعمل على تلافيه على مستوى العاطفة والشعور، بإشهار تهديده ووعيده ليس في وجه من يفعل الفاحشة أو يشيعها فحسب، بل في وجه من يحب ذلك الشيوع، وفي ذلك يقول الله جل جلاله: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}، ذلك بأن حب شيوع الفاحشة يكشف عن مرض مستحكم في نفوس أصحابه، يؤمن أرضا خصبة، وسندا نفسيا بغيضا لتحقق ذلك الشيوع في واقع سفينة المجتمع التي تتناسل فيها الجوائح، وتعصف بها الأوبئة، وتختل في ساحتها موازين القيم، ويخبو قاموس الفضائل والمعالي، ويتدحرج القوم في منحدر أخلاقي واجتماعي رهيب، يؤول بهم لا محالة إلى العار والبوار. إن من علامات الخطر الذي يداهم سفينة مجتمعنا التي تعاني من هزات عنيفة متلاحقة، أن يكثر الخبث ويتراكم، حتى يصبح الناس ويمسوا على مشاهده المقرفة وروائحه النتنة، التي يراد لأصحاب السفينة أن يطبعوا معها، ويستمرئوا استنشاقها، فلا يشعروا إلا وهم يختنقون، عندما يمتص ركام الخبث مقومات الحياة. إن من علامات الخطر على سفينتنا، أن يصبح الفجور صناعة رهيبة لها مدارسها ومهندسوها وخبراؤها وأساتذتها الذين يتنافسون على الدوام، من أجل ابتكار الجديد من الحيل والأحابيل الشيطانية، ومن العوامل المساعدة على ولوج مستنقعات فاحشة الزنا، فليس يخفى على أحد ما تمثله آلة الإشهار الصفيقة من حالة دائمة لاستفزاز المشاعر وتأجيج الغرائز السفلى، وتهييئها لتقبل عالم الفجور وولوجه، ولو بعد حين، عمادها في ذلك جسد المرأة الذي حول إلى سلعة تعلب وفق “موديلات” وأشكال شتى، تستلهم ما تجمع في سياق ما يمكن تسميته بعلم نفس الزنا.
إنها خسائر جسيمة تلك التي يتكبدها المجتمع الذي يرضى باحتضان جرثومة الزنا بين ظهرانيه، خسائر تتجلى بظلالها الكالحة على مستوى الإيمان، وعلى مستوى الأخلاق والقيم، وعلى مستوى مناعة الأجيال، وموقعها في عالم الإبداع العلمي، والرقي الحضاري النوعي الذي لا يتخلق إلا في بيئة طاهرة، مصونة بالعفاف، محصنة بالستر والحياء. إن الملاحظ العاقل لا تخطئ سمعه وأبصاره ما تعج به سفينة مجتمعنا من عواقب وخيمة ونتاج وبيل، جراء اتساع رقعة الفواحش في زواياها ودروبها، بل وعلى مرأى ومسمع الناس جميعا، فقد جعلت التكنولوجيا المعاصرة إنجازات الفجور في متناول كل الناس إلا من أبى. إن كل قطاع في سفينة المجتمع لا يلتزم بمذهبية الإسلام، وبما تفرضه من مبادئ وقيم، ومن ممارسات تستلهم تلك المبادئ والقيم، يجعل من نفسه خادما ذليلا في إمبراطورية الفجور، يغذيها من باب تخصصه، فللتعليم ضلع، وللإعلام ضلع، وللسياحة ضلع، وللفن بجميع شعبه ضلع، وقس على ذلك كل مناشط المجتمع، التي كلما وسعت الفجوة بينها وبين قيم الإسلام وشرائع الإسلام، وناصبته العداء إلا وتكون قد فتحت الباب على مصراعيه لمقدمات الزنا ودواعيه، وما لم تدخل تلك القطاعات في السلم كافة تحت راية القرآن الكريم، فإن ذلك من شأنه أن يعجل بذلك المصير. إنه لا بد من تجرد قوى المجتمع الحية، ممن يغارون على العرض والدين، أن يصونوا بيضة السفينة، وأن يصدوا عنها كل معتد أثيم، وأن يواجهوا ألسنة الحرائق التي تشرئب بأعناقها نحو السفينة، فضلا عن التي تلتهم محتويات السفينة بلا هوادة ولا رحمة، شعارهم في ذلك قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم : ((والذي نفسي بيده لتأمُرُنَّ بالمعروف ولتنهوُنَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم.
د. عبد المجيد بنمسعود