جعل الإسلام النظافة من الإيمان، وعدّها شعبة من شعبه السبعين، ووقّت للمسلم مدّة يتعاهد فيها جسمه بالماء لإزالة ما يعْلَقُ به من دَرَنٍ ونفل، وصِنَان وتفث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “حق على كلّ مسلم، أن يغتسل في كل سبعة أيّام يوما: يغسل فيه رأسَه وجسَده”، متفق عليه، و معنى حق: ثابت ولازم عليه؛ وحدّد للاستحداد، والنتْف، وقص الشارب، وتقليم الأظافر حينا لا يتجاوزه المرء: عن أنس رضي الله عنه قال: وقّت لنا النبي صلى الله عليه وسلم في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتْف الإبط، وحلْق العانة ألّا يُترك أكثر من أربعين ليلة” رواه أحمد وأبو داود وغيرهما. وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((اُحْفُو الشوارب واعفوا عن اللحى))، وذلك إذا طالت سُبَالتاه، وتهدّل شعره على الشفتين. وعدّ غَسْلَ البرامج من سنن الفطرة، لأنها مواضع لِعِلَق الأوساخ : عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة ، وانتقاص الماء”، قال الراوي: ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة”( رواه مسلم). وتستبين الحالة مِنْ غَسْل أعضاء معينة في الوضوء دون باقيها، لأنها عُرضة للغبار، وتستبق صاحبها إلى كل عمل يأتيه: آناء الليل وأطراف النهار؛ وشرع الاغتسال عقب الوطْء ليرجع إلى البدن نشاطه وقوته، بعد وهن الاستفراغ وألمه، والإنسان منقاد بالطبع لشهوة فرجه، وقد لا يشبع إلا بأكثر من مرة، فإذا ذكَر الغسل وكلفته، وألحت عليه شهوته ليستجيب إلى شره الوقاع بعد هزيع من الليل، وربما يُؤْذِن هذا بالرحيل فيعصي أمرها، ويسمو بها إلى غير وقت، ويحفظ إذّاك على جسمه قوّتَه، ويختزن ماءه الذي به روح الحياة، وإلا لَهدّت بدنه هدّا، وحلّت مفاصله حلّا، وألقته في معسكر الهرمي مفصوم القُوَى. وأوْجب الشرع على المسلم إذا قضَى حاجته أن يتطهر بطهور الماء، فإن لم يجد فيستطيب1 بشيْء منظّف، ويُثْني القرآن الكريم على مَن هذه خصائصهم فيقول: {لا تقم فيه أبدا، لمسجد أُسِّس على التقوى من اول يوم أحقّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين}(التوبة : 108). ولم يأل فقهاء الملة جُهدا في تبيان هذه الطهارة، من حيث كيفياتها وصفاتها وأحكامها، وما يتعلق بها، واحتلت عشرات الصفحات بين كتب الحديث ومراجع الفقه، وتصدرت جميعَ المباحث الفقهية، وأُفرِدت بالتصنيف؛ وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على تصلّب القوم المسلمين في غاية الاعتناء بهذه الطهارة، ما لا تجد معشاره في جميع الملل والنحل: قديمها وحديثها. ومِنْ طريف ما يُذْكر أنّ رجلا قال لبعض الصحابة من العرب -وقد خاصمه- : لا أحْسَبك تُحْسِن الخراء، قال: بلى وأبيك، إنّي لأُحْسِنُها و إني بها لحاذق: أُبْعِدُ الأثَر، وأعِدُّ المدر، وأسْتقبل الشِّيح، وأسْتَدْبِرُ الريح، وأُقْعِي إقعاء الظبْي، وأَجْفُل إجفال النَّعام. وأوْعد الله سبحانه الذي لا يستنزه من البول العذابَ الأليم: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، بلى إنّه كبير : أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخَر فكان لا يستنزه من بوله”(متفق عليه).
ومن أحكام الإسلام السامية: أن لا يأتي الرجل أهلَه وهي حائِض أو نُفَساء، لنجاسة ذاك الدم البتار لعضو الإنسان، الفتّاك بهيكله، المضر بصحته، وهو -أي الرجل- في فترة الحيض التي لا تَعْدُو الخمسة عشر يوما إن طالت في نقاهة، يستعيد قواه الخوارة، ليشتد عُوده، ويستقيم عند ذاك أوَدُه، ثم يعود إلى جفنة الوغَى وكلّه حيوية وحياة؛ وأن لا يأتيها في غير موضع الحرث، لأنه ليس أصلا للإنبات، لـِخُبْثِ الموضع وقذارته، أكثر ما هناك أنه يشوش على المرأة بالَها إلى درجة قد تفتنها في دينها، فهي لا تستكمل لذَّتها، ولا يحصل مقصودُها. وبعد، فالإسلام -هُو دينُ الطُّهْر والجلال- قَد فصّل للدّاني به الأحكامَ تفصيلا، وبيّن له الحِلّ من الحرام تبيينا، وبصّره بالطيّب من الخبيث؛ وعرّفه المألوف من الشاذ، والحَسنَ من السيئ، والجميل من القبيح؛ وإلا فما قيمة الإنسان يا ترى! إذا انتكس طبعه: فاستطاب الخبيث، وأَنَفَ من الطيّب. هذا هو (الإسلام) الذي ارتضاه الله جَلّ في علاه لنا دينا، فيه تتقمقم جميعُ الرسالات، والمذاهب الروحية، التي جاءت بأصول الطهارة لأُممها، ومختلف أساليب النظافة على كثرة طُرُقها الحديثة : غربية كانت أو شرقية، ولله الأمر مِنْ قبل ومِنْ بعد.
د. صالح العَوْد- فرنسا
———–
1 أي : أنّ النفس تطيب بإزالة الخَبَث وتستريح منه.