أمـــس :
إننا اليوم في (المغرب) لفي عهد يعده من يعيشون قبله؛ ثم يمتد بهم العمر إلى أن يعيشوا فيه عهدا غريبا عجيبا، فقد شاهدنا كل شيء إلى تحول سريع، فقد كنا نحيا في بيئة لا تكاد تمت إليها هذه البيئة الجديدة بأي لون. كنا في دين وفي عادات وفي هيئات وفي أفكار وفي مقاييس وفي أوضاع. ثم ها نحن أولا، مندفعون إلى ما يعاكس كل ما ألفناه على خط مستقيم. أمس كان الدين ومثله العليا والتخلق به. والتحاكم إليه. والحرص على علومه. واحترام حملته. هو المعروف المجمع عليه لا يختلف فيه اثنان لأن ذلك راسخ في النفوس؛ وتواترت عليه القرون؛ منذ عرف المغرب الإسلام في القرن الأول الهجري إلى أن أدركنا نحن ذلك في أوائل القرن الرابع عشر. أمس كانت عندنا تقاليد محترمة في اللباس وفي اختيار التأثيث وفي هيأة الجلوس وفي إقامة الحفلات وفي مزاولة الأعمال. فتكونت لنا هيأة اجتماعية توافقنا لأنها كانت متسلسلة عن الأجداد. لا يحس فيها بأنها تتغير في كل جيل، وإن كانت في الحقيقة لابد أن يكون فيها تغير ما في كل جيل فكانت لها موازين خاصة مألوفة. إليها يتحاكم ذوو الأذواق والأفكار عند الاختلاف. فيتخذ حكمها مسمطا. وقانونها مرتكز في أعماق النفوس لا مسطر في الطروس. تلاءمت فيه مقتضيات حياتنا وديننا وعادات مجتمعنا تلاؤما تاما. دين العربية ولغة الدين. وعادات تكونت تحت نظرهما في قطر امتزج فيه العرب والبربر تمازج الماء القراح بالراح.
الـيـوم :
وفي هذا اليوم دهم علينا الاستعمار بخيله ورجله. بلونه وفكره. بسياسته ومكره. بحضارته المشعة. بعلومه الحيوية المادية. بنظامه العجيب؛ بمعامله المنتجة السريعة؛ بكل شيء يمت إلى الحياة الواقعية. فوقع لنا كما التقاليد والأفكار وكل ما يمت إلى العادات. فإذا بالمغرب يتحول في عهد قصير إلى مغرب آخر يغاير كل ما كان معروفا منه في الأمس. فإذا بأمثالنا نحن الذين كنا نعيش في شرخ شبابنا في المغرب المستقل قبل 1330هـ. قد كدنا نكون غرباء في طور شيخوختنا في المغرب المستقل من جديد 1375هـ. فقد حرصنا أن لا ننكر إلا ما يستحق أن ينكر. وأن نحمد كل ما يمكن أن يحمد واجتهدنا أن نساير العصر. وأن نتفهمه فلا ننكر أخذ ما لابد من أخذه من أساليب الحضارة ونظمها وعلومها nلأن الحكمة ضالة المومن يلتقطها أنى وجدها- حسب أنظارنا نحن المسنين حكمة ما بين التفريط والإفراط؛ فنحاول أن نجمع بين محاسن أمس واليوم. ناصبين ميزان القسط. فإذا بنا نكاد نعيش الآن على هامش الحياة العادية التي اندفع إليها هؤلاء الذين يملكون ناصية الحياة الاجتماعية بعد الاستقلال.
وأعظم ما نهتم له شيئان:
أحدهما التفريط في المثل العليا التي لا ترسخ في الشعوب إلا بعد جهود قرون؛ ومتى اجتثت من أي شعب بمثل هذه الاندفاعات العمياء فإن أبناء ذلك الشعب سرعان ما ينحرفون عن الصراط المستقيم في الحياة.
وثانيهما التفريط في المحافظة على اللغة العربية وآدابها التي هي شعار المغرب وكنزه الموروث المحافظ عليه كلغة رسمية حتى يوم عممت تركيا لغتها في جميع أنحاء بلاد العرب منذ أوائل القرن العاشر الهجري. وليت شعري لماذا كنا نحرص على الاستقلال إن لم تكن أهدافنا المحافظة على مثلنا العليا المجموعة في أسس ديننا الحنيف؟ والمحافظة على هذه اللغة التي استمات المغاربة كلهم عربهم وبربرهم في جعلها هي اللغة الوحيدة في البلاد. ومعلوم ما للمغراويين والمرابطين والموحدين والمرينيين من تمجيد هذه اللغة وهي دول بربرية صميمة وذلك هو موضوع العجب.
وأما أن يحافظ الأدارسة والسعديون والعلويون عليها فإن ذلك أمر طبيعي. لأن الجالسين منهم على العرش عرب أقحاح. هكذا أصبحنا نرى كثيرا من تراثنا يضمحل بكل سرعة. ثم لا يطمع أن يتراجع إليه الأخلاق إلا بعد زمان نطلب الله أن لا يطول.
الـغـد :
نحن نوقن أنه سياتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود. ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه. فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم. وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا. بل يسجل فيه كل ما كان ولو الخرافات؛ أو ما يشبه الخرافات، فإن نَهَم من سياتون في الغد سيلتهم كل ما يقدم إليه كيفما كان؛ ليستنتج منه ما يريد أن يعرفه عن ماضي أجداده. وهذا إحدى مغازي هذا الكتاب الذي بين يدي القارئ.
> من مقدمة كتابه المعسول