شرح الأربعين الأدبية(23)


 

في إنشادِ الشِّعرِ في المسجد (1)

 

روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن التحلق قبل الصلاة يوم الجمعة(1).

هذا أول حديث في باب الشعر في المسجد، ومداره على ثلاثة أمور:

أولها ذكر خمسة أمور نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي: الشراء والبيع وإنشاد الضالة وإنشاد الشعر في المسجد، والتحلق قبل الصلاة يوم الجمعة.

وثانيها أن القاسم المشترك بين ذلك كله هو الوقوع في المسجد.

وثالثها أن المقصد من كل ذلك يتجه في مسارين اثنين: مسار مؤسسة المسجد نفسها، ومسار الناس الموجودين بها.

ومحل الشاهد عندنا في الحديث هو إنشاد الشعر في المسجد، وتُفهم منه ومن السياق الذي ورد به مسألتان: الأولى سلوك، والثانية تربية.

أما السلوك فهو عملية إنشاد الشعر في المسجد، وهو الذي عبّر عنه الحديث بـ((وأن يُنشد فيه شعر))، وقد ورد في رواية لفظ ((تناشد)) بدل ((يُنشد))(2)، ولفظ ((الأشعار)) بدل ((شعر))(3)، والفرق بيِّنٌ بَيْن لفظي الروايتين:

إذ الرواية الأولى تُسند الفعل إلى المجهول، وتسوق المنهي عنه نكرة، وفيه أن إنشاد الشعر منهي عنه بِغَض النظر عن مُنشده، وعن نوع الشعر، فالفَهْم الأول للحديث أن النهي واقع على جميع الناس، وعن جميع الشعر.

وأما الرواية الثانية فالنهي فيها عن تناشد الأشعار، والصيغة الصرفية ((تفاعل)) تدل هنا على المشاركة، فإذن المنهي عنه ليس أن يُنشد الشعر في المسجد)) بل أن تتحول المساجد إلى فضاء جماعي لتبادل الإنشاد بين الشعراء، ومشاركة عدد منهم في هذا الفعل، وعند هذا الحد يظهر بجلاء أن المسجد لم يَعُد فضاء للعبادة)) بل صار ناديا شعريا، وملتقى من ملتقيات الشعراء يتبادلون فيه الأشعار، ويقدم كل واحد منهم فيه ما جَدّ لديه، وما قاله في هذا الموضوع أو ذاك.

ومما له علاقة بذلك أنه قد وقع في الرواية الثانية لفظ ((الأشعار))، وهو يتناسب مع التناشد، إذْ تعدى الأمر أن يكون مجرد إنشاد للشعر في المسجد إلى حد أن صار هذا المسجد مكانا لتداول كثيف للأشعار من لدن الشعراء.

وبناء على ما سبق فإن الرواية الثانية للحديث تضيء المقصود من الرواية الأولى، وتحوِّل فهمنا لها مِن مطلق النهي عن إنشاد الشعر في المسجد إلى تحويل المساجد إلى فضاء للشعر، وفي هذه الحالة يصير أمر النهي مفهوما وواضحا ومنسجما مع نصوص أخرى ومع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد.

أما النصوص الأخرى فحسبنا منها هنا الآن ما رواه أبو داود بسند حسن عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: ((كان رسول الله ( يضع لحسان منبرا في المسجد، فيقوم عليه يهجو مَن قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن روح القدس مع حسان ما نافَح عن رسول الله ())(4)، وهو نص صريح في أن الإنشاد كان في المسجد، وستكون لنا معه فيما بعد وقفة خاصة بحول الله تعالى.

وأما السيرة النبوية فمن المعلوم من السيرة بالضرورة أن المسجد النبوي كان المؤسسة الرسمية للدولة المسلمة، وكانت قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنطلق منه، ومنه كان يبدأ في تحريض المسلمين على القتال، والرد على المشركين، كما يُفهم من الحديث السابق نفسه.

وعلى كل حال فأقل ما يُفهم من حديث الباب بروايتيه، والنظر إليهما في ضوء الحديث السابق، أن الشعر في المسجد غير منهي عنه)) لأنه كما قال الترمذي ((قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد))(5).

وأما المنهي عنه في المسجد فهو أن يمارَس فيه ما يؤثر تأثيرا سلبيا على أدائه وظيفته، ومن ذلك أن يشغل الشعراءُ الناسَ بالشعر عن الذكر وقراءة القرآن، أو بعبارة واضحة أن تُعطل الوظيفة الكبرى للمساجد، وأن تَحل محلَّها ممارساتٌ يمكن أن تكون في فضاءات أخرى.

———

1- سنن أبي داود، 1/283، حديث رقم 1079، ك.الصلاة، ب.التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة. وقد رواه الترمذي في سننه وحسنه. ن. صحيح سنن الترمذي، 1/191، حديث رقم 322 ك. الصلاة، ب. ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد، كما حسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (م.س)، وفي صحيح سنن ابن ماجة، 1/231، حديث رقم 614/756، ك. المساجد والجماعة، ب. ما يكره في المساجد.

2- صحيح سنن الترمذي، (م.س)، وصحيح سنن ابن ماجة، (م.س).

3- صحيح سنن ابن ماجة، (م.س).

4- صحيح سنن أبي داود، حديث رقم 5015، ك.الأدب، ب. ما جاء في الشعر. وقد علق عليه الألباني بقوله: ((حسن))، كما أورده في الصحيحة، حديث رقم 1657). ورواه الترمذي في سننه، حديث رقم 2486، وقال: (( هذا حديث حسن صحيح)).

5- صحيح سنن الترمذي، 1/192.

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>