391 تجارب الإصلاح الإسلامي المعاصر في التدبير التربوي
ذ. عبد المجيد بلبصير
كان ديدن رواد الإصلاح في العالم الإسلامي المعاصر تدبير الإصلاح التربوي، بعد أن عدوه أو كاد، روح الإصلاح الاجتماعي، وذلك بين دفتي التأصيل لمناهجه بأجود ما صدر عن الذات، والتكميل لمقولاته بأنفع ما وفد عليها، وهكذا سعى الأستاذ الإمام محمد عبده رحمه الله، بعد أن “صرح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه”(1) آنذاك، وبمبادرة منه شخصيا، إلى الجمع بين الحسنيين، فكان رحمه الله “يدرس في داره لبعض المجاورين كتاب “تهذيب الأخلاق” لابن مسكويه، وكتاب “التحفة الأدبية في تاريخ تمدن الممالك الأوربية” تأليف الوزير فرانسو جيزو، وتعريب الخواجة نعمة الله الخوري”(1) حتى إذا دخل حينها مجلس إدارة الأزهر، حيث كان أعظم عامل فيه، أسهم رسميا و بحظ وافر في تقدم الجامع، بما جدد فيه من علوم ومعارف، وأنعش من نفوس ومواقف. يقول الشيخ محمد الحجوي الثعالبي في ترجمة الشيخ حسونة النواوي، شيخ الأزهر ورئيس مجلس إدارته آنئذ “أسس مجلسا لإدارتها، وكان من جملة أعضائه الشيخ محمد عبده، الذي كان أكبر عامل فيه، وسن قانونا آخر لإدارته وانتظامه وكيفية التعليم فيه، ونظام المدرسين والمتعلمين، وكيفية الامتحان وغير ذلك، مما أدخل الأزهر في صف الكليات العظيمة، ذات النظام المعتبر، ورقاها إلى أوج الفلاح، وأدخل علوما عصرية للأزهر لم تكن تدرس فيها من قبل كالتاريخ والجغرافيا وغيرها… فتقدمت الأزهر والعلوم الإسلامية في أيامه تقدما عظيما بإعانة محمد عبده المذكور”(2) على أن ما نسب الشيخ الحجوي للأستاذ الإمام من أعمال في المجلس على سبيل الإعانة، سرعان ما استدركه في ترجمته بقوله “وكان في الحقيقة هو مديره تحت رياسة الشيخ حسونة السابق… وبذلك تسنى للأزهر أن يصير لما هو عليه الآن”(3) أي إلى حوالي الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي فيما يبدو.
ثم كانت رحلة الأستاذ الإمام فيما كان إلى تونس مرتين، كان في أولاهما متفقدا للأحوال، وفي الثانية متعهدا للأعمال، إذ صادف فيهما نخبة إصلاحية من علماء تونس الأكابر، من أمثال العلامة سالم بوحاجب رحمه الله، فتواردت الخواطر على الحق في سبيل الإصلاح الاجتماعي، ووقع الحافر على الحافر مصيبا محز الاتجاه إلى الفلاح التربوي، وكان من أطيب غراس الرحلتين محاضرة قيمة للأستاذ محمد عبده، من على منبر الجمعية الخلدونية، الواقع مقرها آنذاك قبالة جامع الزيتونة(4) حيث كانت تعرض فيها أنشطة موازية لبرنامج التعليم في الجامع، كان من أهمها دروس في مبادئ العلوم التكميلية نحو التاريخ والجغرافيا والحساب والهندسة. وقد حرص حينها الشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله، الذي لقبه الأستاذ الإمام بسفير الدعوة الإسلامية في تونس، على أن يدون بدقة ما ورد في المحاضرة من آراء إصلاحية علمية واجتماعية وتربوية(5) ليبني عليها فيما بعد مشروعه الإصلاحي التربوي، موسعا مباحثه بالانفتاح على كل نافع جديد، ومؤصلا لبناته ذلك التأصيل الفريد، فضمن ذلك كله كتابه الفذ عن التعليم العربي الإسلامي “أليس الصبح بقريب” الذي صدرت طبعته الثالثة عام 1431هـ/2010م بنشر مشترك من قبل دار سحنون التونسية ودار السلام المصرية.
والمتصفح للكتاب يجد في صلبه صيدلية تربوية صالحة أدويتها لعلاج كثير من آفات الواقع التربوي اليوم، على النحو الذي عالج به الشيخ ابن عاشور وقتها أدواء التعليم الزيتوني بعد أن آلت إليه رسميا مشيخة الجامع، وذلك سنة 1351ه/1932م إذ عرض فيه فيما عرض بما يشبه الاستقراء مواطن الخلل التي أصابت مناهج التعليم في عصور الانحطاط، من نحو انعدام الخطة التربوية المتطورة، وإهمال الضبط، والبعد عن التربية الأصيلة، هذا مع نقد دقيق لمستويات التعليم وأحوال التلامذة، تجلت أعظم معالمه في غياب الحفظ في مرحلة الابتدائي، وإهمال التمرين والعمل بالمعلومات في الثانوي، وغياب ملكة النقد في العالي، والجري وراء الشهادة من غير تحصيل علمي، إضافة إلى عدم مراعاة المصالح الصحية للطلاب(6).
كما عرض فيه على سبيل الوصف صورة وافية عن واقع التعليم في عصره، حيث رصد أحوال الدروس ومدرسيها، ثم أحوال التلامذة والفنون والتآليف، متتبعا ما لحقها جميعها من العوار والأضرار، مع تفصيل دقيق لأسباب تأخر العلوم المتداولة مما كان يشكل آنذاك صلب البناء المعرفي في برنامج التعليم الزيتوني، وهي العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وكلام وأصولهما، مضافا إليها علوم العربية والمنطق والتاريخ والفلسفة. وقد نبه إثر ذلك على وجوه إصلاحها وما يقوم به أودها، فأبان، كما ورد ظهر الدفة الأخيرة من الكتاب، “عن نظرة استشرافية منيرة، وإحاطة وفهم للشريعة والواقع، فخط بذلك للأمة الإسلامية طريقا للنهوض والإصلاح، ورسم لها منهجا قويما للنمو والفلاح”.
هذا وقد شاء سبحانه أن يرسل رياح الإصلاح التربوي لواقح للهمم القعساء بالمغرب الأقصى، إذ في الوقت الذي شرع فيه في إصلاح الأزهر، وإثر قدوم الشيخ محمد عبده إلى تونس عام 1331هـ/1913م، بذل الشيخ محمد الحجوي الثعالبي رحمه الله جهودا تذكر فتشكر في سبيل إصلاح القرويين، حيث كان أول نائب للصدارة العظمى في المعارف والتعليم سنة 1330هـ/1912م، وكان أول ما أهمه -فيما ذكر- أمر القرويين، فعمل على استصدار أمر شريف من قبل السلطان يوسف بن الحسن عام 1332هـ/1914م يقضي بإدخال نظام ينهض بالجامع بعد أن كان شبه جامعة شعبية ينبني فيها سير الدروس على التطوع من غير ترتيب، مما أدى لاحقا إلى تعطيل الدرس بسبب انشغال جل المدرسين بحرف يسدون بها رمق النفس.
وهكذا وفق رحمه الله بعد الاجتماع في نفس العام بعلماء فاس الأعلام إلى تأسيس “مجلس العلماء التحسيني للقرويين” بطريق الانتخاب، وهو بالمناسبة أول مجلس علمي بفاس العامرة تولى رئاسته العلامة الحجوي الثعالبي إلى حين وفاته رحمه الله سنة 1956 م وقد خرجت مداولات المجلس التحسيني بمشروع إصلاحي رائد للجامع، مكون من مائة مادة ومادتين مقسمة على عشرة أقسام، تناولت فيما تناولت بعد نظام المجلس الأساسي ضابط العالمية وامتحان طالبيها، وضابط التدريس وامتحان التلاميذ، وتنظيم طبقاتهم ابتدائية وثانوية وعالية، وضابط التآليف الدراسية والأمور التأديبية والتقاعد، ونظام العطل والرخص..
والخلاصة أن المشروع كما سبق نموذج رائد في التدبير التربوي، لولا أن العمل كان دون الأمل، إذ لم يتسن للمجلس التحسيني تنزيله وتحقيقه، بسبب التواء الأغراض المودي بكل مشروع وليد إلى الإجهاض. يقول الشيخ محمد الحجوي” وأقول من غير تمدح أو تبجح: إن ذلك القانون لو خرج من حيز الخيال إلى حيز الإعمال لكان محييا للقرويين، مجددا لهيآتها التدريسية تجديدا صحيحا متينا، إذ ليس له مرمى سوى ترميم ما انهار من هيكلها المشمخر، باعثا لعلوم وفنون من أجداثها كان الإهمال أخفاها، وتطاول الأزمان عفاها… سائقا لمن تمسك به إلى العروج بذلك المعهد الخطير إلى مستوى نظامي عصري ديني، به يبلغ العلم والدين والثقافة أوج الكمال والفخار، ولكن مع الأسف المكدر تداخل في القضية ذوو الأغراض الشخصية، فبينما نحن نبني ونصلح ونرمم بفاس، وقد شرعوا في الهدم والتخريب في الرباط بغير فاس، وما كدنا نختم القانون المشار إليه حتى صدر أمر شريف برجوعنا..”(7).
وبعد، فهذه نتف عن نماذج راقية من مشاريع التدبير التربوي، متحدة الحال والزمان بجامع ضعف السلطان واحتلال الأوطان، متفاوتة المكان والإنسان بتفاوت البيئات والحاجات والقدرات، ولئن قطع وصلها بما يمنع من الإكمال والانتفاع، فعسى أن يوصل رحمها بحبل البحث والاطلاع، وذلك رصدا للمؤتلف والمختلف فيها على المستوى التعليمي و”البيداغوجي”، واستثمارا لما به حل المشكلات وتبديد الأزمات اليوم على المستوى التربوي والحضاري.
—–
1- ينظر ترجمة الإمام محمد عبده في كتاب “أعلام الفكر الإسلامي في العصر الحديث” للعلامة أحمد تيمور بك من 148 على 151. الطبعة الأولى 1387ه 1967م. لجنة المؤلفات التيمورية.
2- الفكر السامي فس تاريخ الفقه الإسلامي. القسم الرابع ص224 الطبعة الأولى 1416ه/1995م دارالكتب العلمية.
3- نفسه 233.
4- ينظر “أليس الصبح بقريب”94.
5- ينظر شيخ الجامع الأعظم للدكتور بلقاسم الغالي 186-187.
6- ينظر المرجع السابق 188 إلى 195.
7- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي. القسم الرابع 228 وينظر ما قبلها وما بعدها.