شرح الأربعين الأدبية(23)


في امتلاء الجوف بالشعر (2)

 

هذه هي الحلقة الثانية الخاصة بالحديث النبوي ((لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا، خير له من أن يمتلئ شعرا)))(1)، وقد كانت لنا في الحلقة الأولى وقفة مع عناصر هذا الحديث، والصورة التي رسمها النبي صلى الله عليه وسلم للشعر فيه.

إن القراءة العجلى للحديث تخلص إلى أنه يُعبر عن موقف رافض للشعر، كل الشعر، بدليل تلك الصورة التي صُور بها فيه، وإن المرء ليمكنه أن يدعم هذا الاستنتاج بعدد من الأحاديث التي تسير في المسار الرافض للشعر مما ستكون لنا معه وقفات لاحقا.

وأما قراءتنا لحديث الباب فسنقدم بين يديها ثلاث أسئلة سنجيب عنها من خلال قراءة متأنية في ضوء علاقة هذا الحديث بأحاديث أخرى تبدو مختلفة عنه، والأسئلة هي:

أولا: أيتعلق الأمر بكل شعر – كما يُفهم من إطلاق لفظ الحديث – أم بأنواع وأغراض منه دون أخرى؟

ثانيا: بأي مستوى يتعلق الموقف من الشعر في الحديث: مستوى الإنشاء، أم الحفظ، أم الإنشاد والتمثل والرواية، أم بكل ذلك؟

ثالثا: أيتعلق الأمر فعلا بالشعر أم بطريقة في التعامل معه؟

أما الإجابة عن السؤال الأول فتتم من خلال الجمع بين أمرين: النظر بعين إلى أحاديث قد تبدو مخالفة لحديث الباب، والنظر بأخرى إلى واقع التعامل النبوي مع الشعر والشعراء:

وأما النظر إلى حديث الباب في ضوء أحاديث أخرى فحسبنا منه أن نشير إلى حديث الباب السابق ((في حكمة الشعر))، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من الشعر حكمة))(2)، وقد رأينا أن من فوائده توجيه المسلمين نحو الاستفادة من تلك الحكمة، والتماسها في الشعر، وجعل الشعر ذا وظيفة تربوية…، وإذن فهذا الحديث يوجهنا إلى البحث عن مسار آخر لفهم حديث الباب، إذ أقل ما يفيده أن الشعر غير مذموم.

وإذا كان شعر الحكمة مرغبا فيه، فإن أشعارا أخرى مرفوضة، ومنها شعر هجاء الإسلام والمسلمين والفحش…، فإذن هل يتساوى امتلاء الجوف بشعر الحكمة مع امتلائه بشعر الهجاء والفحش؟ لا نعتقد أن أحدا -بناء على ما سبق -يمكن أن يقول بتساويهما.

ويبقى أن حديث حكمة الشعر يتحدث عن الشعر من زاوية نوعية، ولذلك يمكن أن نتساءل: أيمكن فهم حديث الباب كذلك من زاوية نوعية؟ وماذا عن الزاوية الكمية؟ ونرجئ الإجابة إلى حين.

وأما النظر إلى الحديث من زاوية واقع تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الشعر فحسبنا كذلك أن نشير إلى نموذج واحد هو حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن هذا الشاعر كان متفرغا للشعر، متخصصا فيه، وله في ذلك مواقف كثيرة، والأحاديث النبوية الخاصة بشعره وتحريضه على الدفاع عن المسلمين وهجاء المشركين عديدة، سنرى عددا منها في أبواب لاحقة بحول الله تعالى.

ويكفينا هنا بخصوص حسان أن نشير إلى أنه كان راوية للشعر؛ لأن الرواية كما هو معروف شرط لقول الشعر، وكلما ارتفعت كمية المحفوظ ازدادت شاعرية الشاعر، فإذن حسان من هذه الناحية كان يحفظ شعرا كثيرا، ثم إنه لتخصصه في الشعر وتفرغه له أنشأ كذلك شعرا كثيرا، وبين هذا وذاك فإنشاد الشعر والتمثل به وروايته كل ذلك لا يقل بأي حال من الأحوال عن مستوى الحفظ والإنشاء.

كيف إذن نجمع بين هذا الواقع – واقع تعامل حسان مع الشعر بتشجيع نبوي- وبين حديث الباب؟

لا ريب أن الأمر يتعلق بلفظ مطلق في الحديث تقيده أحاديث أخرى، ومن ذلك يمكن أن نخلص إلى أن حديث الباب لا يتحدث عن كل شعر، ولا عن كل شاعر؛ بل عن شعر ما وشعراء ما، والقاعدة المعروفة: أن ما يكون مطلقا أو عاما في نص قد نجد في نص آخر ما يقيده أو يخصصه تفيدنا كثيرا في هذا الاتجاه، وحسبنا هذا نتيجة هنا.

وأما السؤال الثاني فالباعث عليه أن لفظ الشعر مطلق، والحديث لا يحدد أي مستوى من مستويات العلاقة به (الرواية، الإنشاء، الإنشاد) هو المقصود، والجواب عن هذا السؤال مضى كذلك عند حديثنا عن حسان بن ثابت، فالرجل قد حفظ الشعر، وقاله، وتمثل به، وكل ذلك على مرأى ومسمع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل وبتشجيع منه مرارا، ولذلك نخلص إلى أن واقع التعامل النبوي مع الشعر لا يسمح بالتمييز بين حكم مستوى دون آخر، فكل تلك المستويات معنية بالحكم في النص.

وأما الإجابة عن السؤال الثالث فتتم من خلال تغيير مسار قراءة الحديث، فقد نظرنا إليه من قبل من زاوية نوع الشعر، ومن زاوية مستويات العلاقة به، وبقيت زاوية طريقة التعامل معه.

أول ما نبدأ به أن طرائقنا في التعامل مع الشعر مختلفة، وأنصبتنا منه متباينة، والسؤال الذي يواجهنا هنا هو: أيتساوى في حكم الحديث المقل والمكثر من الشعر؟

لما كان النهي عن كل الشعر غير ممكن لأسباب ثقافية وحضارية…، فقد لزم أن نولي وجهنا شطر القراءة الكمية للحديث، وعندما نفعل هذا لا نكون في الحقيقة إلا مقتفين أثر قراءة ذكية افتتحها الإمام البخاري لما بوب للنص بقوله: ((باب ما يُكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن))(3)، وهذه الالتفاتة تفيد أنه يمكن النظر إلى الحديث من زاوية كمية، أي أن وجه الذم ليس هو الحفظ أو الإنشاء أو الإنشاد والتمثل؛ بل هو حجم التعامل مع الشعر، فإذا وصل الأمر إلى درجة أن يكون غالبا عليه، فإنه يدخل في مرحلة الذم.

والإمام البخاري يقدم لنا -على عادت- خلال ذلك فائدتين اثنتين:

الأولى هي أن الأمر يتعلق بالكراهة لا التحريم.

والثانية هي أن سبب الكراهة لغلبة الشعر أثر ذلك في الصد عن ذكر الله والعلم والقرآن.

بقي أن نشير إلى أن في الحديث النبوي ما يشير بقوة إلى بعض هذا الذي استنبطه الإمام البخاري، وهو أن مركز الثقل فيه هو لفظ ((يمتلئ))، وإذا فالأمر لا يتعلق بالموقف من الشعر؛ بل بالموقف من الامتلاء بالشعر، وشتان ما بين الأمرين، وإنما عاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا السلوك لأنه من المعلوم أن هذه الطريقة في التعامل مع الشعر لا تترك للإنسان فسحة للتعامل مع غيره كالذكر والعلم والقرآن الكريم، ولذلك فالمعيب هو أن يفرط الإنسان في التعامل مع الشعر فيضيع أمورا أخرى أهم.

والخلاصة هي أن الحديث النبوي يركز على مسألة امتلاء الإنسان بالشعر، ويقدم هذا السلوك في صورة منفرة، ليكون منهج المسلم في التعامل مع الشعر وسطا، وحتى لا يكون الإقبال عليه على حساب أمور أخرى أهم كالذكر والعلم والقرآن الكريم.

———–

(1)- صحيح البخاري، 4/118، حديث رقم 6154، كتاب الأدب، باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر…

(2)- صحيح البخاري، 4/115، حديث رقم 6145، كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر…

(3)- صحيح البخاري، 4/118.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>