انساحت موجات الربيع العربي منذ ما يربو على العامين والنصف، على بعض بلاد العرب وشرعت تطهرها من بعض أدران الفساد، التي تراكمت عليها عبر عهود سوداء من القهر الظلم، وذلك بالإطاحة بجملة من أعجاز الطغيان والاستبداد، وزرع شتائل الأمل في استرجاع الشعوب زمام أمرها، والإمساك بتلابيب كرامتها، كان ذلك إيذانا ببزوغ عهد جديد في حياة الأمة، يمثل عودة الروح إلى جسدها المكلوم الذي لم يبق منه موضع إلا ونالته سهام البغي، وخلفت فيه جراحا غائرة نفذت منها إلى السويداء، وكان بشارة بانعتاق الشعوب التي لامست وجهها برودة ذلك الربيع الجميل، من كابوس الاكتئاب الذي أفقدها لذة الإحساس بمعنى الحياة، وهللت الأصوات وقتها بالتسبيح والتحميد والتكبير، ابتهاجا بذلك التحول المبرور، وتلك العودة المباركة إلى الذات التي غيبتها صروف المكر والبغي والعدوان، وقابلية الناس للاستعباد، واستبشر المستضعفونبهذا الميلاد الجديد الذي يمكن أن يحمل عنوان: “من الاكتئاب إلى الانتساب”، ذلك أن الآثار المدمرة التي خلفها القهر على الكيان النفسي للأمة، كانت من الفظاعة والهول، بحيث كانت كفيلة بأن تجعلها رهينة لحالة من الشعور الطاغي بالحزن والغبن، إلى درجة جعلت أحد الكتاب في تسعينات القرن الماضي يدعو إلى إنشاء مرصد يحمل اسم” مرصد الأحزان”، يتولى تقويم أحزان الأمة وتحليلها، وتحويلها إلى طاقة للنهوض من خلال البحث في عواملها وأسبابها، والعمل على تجاوزها، وإعادة النبض إلى القلوب المتراخية، والبسمة إلى الوجوه الشاحبة.
عندما هبت الرياح اللواقح على الأمة، وأزاح الموج الهادر طبقات من الأدران التي تراكمت عبر السنين العجاف على جسد السفينة المنكوب، وسرى الإحساس بالانتعاش في أوصاله وحناياه، واستفاق ربابنتها مما أشبه الموت السريري، بفعل حقنة إرادة الحياة، والإصرار على الاستمرار والبقاء، أشعت بوصلة الحقيقة بشعاع وهاج، مشيرة إلى الأفق المشرق الجميل الضارب في أعماق الوجود، وداخل أهل الحق شبه يقين، بأن السفينة قد أخذت وجهتها في المسار اللاحب نحو شاطئ الأمان، وأنه ليس بينها وبينه إلا لحظات من التجديف والإبحار.
غير أنه تبين فيما يشبه الكابوس الذي يقطع لذة النائم، أن شراذم متفرقة هنا وهناك من القراصنة العتاة، قد أقدموا في غفلة من حراس السفينة على تعطيل بعض محركاتها، وإحداث ثقوب في عدة من جوانبها، وتبين بعد الدرس والتمحيص في مرصد الأحزان، أن سفينة الربيع قد وقعت ضحية خرق كبير اسمه الغفلة عن الأخطار المحدقة التي تتربص بها، بدافع ما ظنه ربابنتها حسن نية، بينما هو في الحقيقة سوء تقدير، لقد أُتِيَت سفينة الربيع من حلم لم يوضع في محله، حذر منه المتنبي شاعر العربية الأكبر بقوله:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى
أُتِيَت من إطلاق العنان لعربدة الغربان الناعقة فيما يسمى بالإعلام، باسم حرية الرأي والإعلام، وهي في الحقيقة ليست إلا حرية للإعدام إعدام آمال الشعوب، وأتيت من الرضى بأنصاف المعالجات والحلول، وبمزاوجة قسرية بين الحق والباطل، وبترك الجيوب المتقيحة تزداد تقيحا، وأورام الفساد تزداد تضخما وتناسلا، وبالإمعان في التنازل عن مبادئ الحق إلى حدود التردي في حمأة الميوعة والابتذال.
وأتيت من التفرق في الدين معاكسة لنهي الله عن السقوط في هذه المعصية الموبقة، وذلك قوله تعالى: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} .
وأتيت من خرق العجب والفرح المبتذل المنعي في قوله تعالى: {كل حزب بما لديهم فرحون}، والإمعان في التنابذ والشقاق، انتصارا لحظوظ النفس، وتقديسا لأصنام الأثرة والهوى.
وأتيت ـ ويا أعظم ما أتيت ـ من علماء السوء الذين ترعرعوا كما تترعرع الحشائش المسمومة في الحقول اليانعة، فهل أتاكم نبأ من بلغت به شقوته من هؤلاء، حد التحريض الموتور الحاقد على قتل شرفاء الأمة المشهود لهم بالبلاء الحسن في خدمة الدين وبعث روحه في جسدها الخامد من عشرات العقود في بلاد الكنانة وما حولها في بلاد العرب؟
وأتيت من خرق الوهن الذي يصنع العجز والشلل، وحول الأمة إلى قصعة منهوبة مستباحة للأمم، كما جاء في حديث الرسول عليه الصلاة والسلام.
وأتيت جملة وتفصيلا من غفلتها عن سنن الهزيمة والنصر في حياة الإنسان، من منظور القرآن الكريم الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وهذا لعمري هو ما عرض ويعرض سفينة الأمة إلى مصير مشؤوم، هو نقلها في مشهد مأساوي رهيب، من الانتساب إلى الاغتصاب. فمتى يدرك ربابنة السفينة سنن الإبحار، لحماية أهلها من القراصنة الفجار؟