د. مصطفى الزكاف
أولا: جهود في خدمة التراث المخطوط.
إن التعلق بالتراث وبذل الجهود الفردية والجماعية لحمايته ودراسته والتعريف به بمنهجية صارمة هو أحد مظاهر الإحساس بقضايا الأمة الكبرى، وشرط للنهوض بها؛ لتعود راشدة قائدة كما كانت.
وإذا كانت البشرية اليوم في حاجة شديدة إلى ثرواتنا المادية، فإنها في حاجة أشد إلى ثروتنا العلمية والفكرية، وأنعم بها من ثروة.
وإن التراث المخطوط الذي يحوي مؤلفات علمائنا السابقين وإبداعاتهم الفكرية المتبصرة في جميع مجالات العلوم والآداب والفنون لهو خير ما ننهض به، ونقدمه لغيرنا على منهاج (اقرأ باسم ربك) ثم هو قبلُ عاصمٌ لنا ولأجيالنا القادمة من الذوبان في الآخرين، دونما هدى أو بصيرة.
ومن أجل هذه القضية الكبرى قامت مؤسسات بجهود مشكورة تستحق التنويه منها:
1- معهد المخطوطات العربية بالقاهرة :
أنشئ المعهد في عام 1946م في رحاب جامعة الدول العربية، على يد صفوة من العلماء بهدف جمع أكبر عدد ممكن من صور المخطوطات النادرة المبعثرة في العالم، ووضعها تحت تصرف العلماء في مقر المعهد، ولفهرسة المكتبات العامة والخاصة، التي تحوي مخطوطات غير مفهرسة، حيثما كانت ونشر هذه القوائم، ثم يقوم بنشر المخطوطات محققة، وليكون بعد ذلك مركزًا علميًا للتعاون العلمي بين العلماء والمؤسسات العلمية في العالم في سبيل خدمة المخطوطات العربية والتعريف بها وتبادل المعلومات عنها. حقق المعهد بعض هذه الأهداف، وبقي معظمها ينتظر، فقد أصابته مصائب قومه فهجر وشرد ثم عاد بعد ذلك إلى موضعه بالقاهرة، وهو الآن يتماثل الشفاء بإدارته الجديدة وفقه الله تعالى.
2- مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي :
يهدف المركز إلى اقتناء المخطوطات الأصلية والمصورة، من داخل الوطن العربي وخارجه، ويتولى صيانتها وترميمها وفهرستها والتعريف بها وتيسير الاطلاع عليها، وقد تجاوزت مقتنياته أصلية ومصورة مائة ألف مخطوط، وقد وضع بعضها في موقع المركز بالشابكة للاطلاع عليها، كما يقوم بإعداد دورات تكوينية، للمتخصصين في هذا المجال.
3- مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن :
تتصدى مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي للتعريف بالمخطوطات العربية الإسلامية وأماكن وجودها عبر العالم، ولها مآثر محمودة، فقد أصدرت فهارس لمراكز المخطوطات بعنوان: (المخطوطات الإسلامية في العالم)، غطت أكثر من مائة دولة في العالم، كما تولت التنقيب عن مراكز المخطوطات المجهولة، في بعض الدول الأفريقية، فأنقذتها من الضياع، ووضعت لها فهارس مثل: فهرس المخطوطات الإسلامية في النيجر ونيجريا وموريتانيا واليمن وغيرها، وتقوم الآن بإعداد الفهرس الشامل لمخطوطات المكتبة السليمانية بإسطنبول، وبإنجازه سيكون فتح كبير في هذا المجال. يسر الله إتمامه.
4- مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض :
أخذ المركز على عاتقه مهمة معرفة أماكن وجود المخطوطات الإسلامية المعروفة على مستوى العالم، والتحقق منها، وشراء ما يشترى، وتصوير ما يصور، وقد حصل بذلك على آلاف المخطوطات الأصلية والمصورة من مختلف الأصقاع، وله اعتناء جيد بالمخطوطات وصيانتها، وقد قام بإصدار عملين مهمين خدمة لهذا التراث وهما:
- برنامج خزانة التراث: يتضمن فهارس المخطوطات العربية -التي حصلوا عليها- في المكتبات والخزانات ومراكز المخطوطات في العالم، ويشتمل على معلومات عن أماكن وجود المخطوطات وأرقام حفظها في المكتبات والخزائن العالمية، وهو على عدم استيعابه وضبطه مفيد للباحثين في هذا الباب.
- قاعدة بيانات الرسائل الجامعية: وهي قاعدة ببليوغرافية عن الرسائل الجامعية في العالم، وفرت في إصدارها الرابع أكثر من 90 ألف معلومة، هدف المركز من إنشائها إلى تمكين الباحثين والدارسين من الاستفادة من الدراسات والبحوث السابقة في مختلف المجالات، ولعدم تكرار الأعمال العلمية، ولاسيما في تحقيق المخطوطات التي يقع فيها الحافر على الحافر كثيرا، فقد يحقق المخطوط عدة مرات، ولا يعلم بذلك فتضيع جهود وأموال وأوقات.
ويوجد غير هذه المراكز موزعة هنا وهناك، فبعضها نشأ قويا ثم ذبل حتى ما عاد يذكر، وبعضها لم يسر برشد منهجي في المسألة التراثية، فغلب عليها طابع الفردية، وحب التندر والأثرة بما عندها، فكدست من المخطوطات ما كدست، على قاعدة: (الجمع والمنع) فكان حالها كلحم أسخن لا هو أنضج فأكل ولا ترك نيئاً فينتفع به.
ثانيا: آفاق الخدمة الشاملة للتراث العربي المخطوط:
إن عجلة الزمن لا تنتظرنا حتى تسير، وعوادي الزمن وآفاته لا تراعي ضعفنا وخمولنا فتحترم تراثنا، فكم من نفائس وأعلاق أصابها ما أصابها فتغيرت معالمها واهترأت وتلاشت، والبقية على الأثر؛ فلذا كان لابد من سلوك رشد منهجي في خدمة هذا التراث وفق خارطة طريق ترتب أولوياتها، من أجل الإنقاذ الشامل، والإعداد المتكامل، ونحسب أن هذه الخارطة التي سنعرض معالمها تفي بمعظم الغرض وتتمثل في اتباع ما يلي:
1- الجمع والتصنيف:
تعيش المخطوطات العربية في بلادنا مشتتة بين المكتبات الشخصية، وبين المكتبات العامة في الجامعات والمراكز ودور الكتب، ويختلف عددها كثرة وقلة باختلاف البلدان، لكن الذي يجب الوقوف عنده ضرورة هو أن تراثا عظيما ما زال عند كثير من العائلات والأفراد، ورثوه أبا عن جد، وكثير منهم لايعرفون قيمته فيضعونه في أقبية ومخازن تفتقد أدنى شروط المحافظة عليه، فلذا كان لزاما على مؤسسات الدولة العلمية والثقافية أن تسعى جاهدة لجمع هذا التراث المتبدد، وتبذل غاية وسعها لإنقاذه من الضياع، وليس من سبيل لتحقيق ذلك إلا عن طريق العمل بإخلاص وجدية بقصد جمع ما تبقى من هذا التراث، وذلك عن طريق الشراء، أو إقناع أصحابه بوقفه على طلبة العلم، أو إهدائه، فإن تعذر هذا فعلى الأقل أن يصور بوسائل التصوير الحديثة لتتحقق الاستفادة منه.
ثم يودع ما تجمع بعد صيانته وترميمه في مكتبة عامة تشرف عليه الدولة، ثم يصنف ويفهرس، وييسر للعلماء والباحثين.
ومما يؤسف له في هذا الأمر أن هناك سماسرة للمخطوطات يجوسون خلال الديار، ويقصدون العائلات العلمية التي لا يعي بعض أفرادها قيمة هذا التراث، فيشترونه منهم بأبخس الأثمان ثم يتاجرون بها ويسربونها خارج أوطانها إلى بعض البلاد الأوربية؛ رغبة في الحصول على أعلى الأثمان.
وقد تسرب عن هذا الطريق نفائس ودرر نادرة سال لها لعاب المستشرقين عند رؤيتها بين أيديهم، فاستقرت بينهم غريبة باكية شاكية إلى ربها ظلم ذوي القربى وهو أشد مضاضة.
ومما يضحك الثكلى أن طالبا في الدراسات العليا أراد أن يقوم بدراسة عن مصاحف القرون الأولى، فلم يجد بغيته إلا في المكتبة الوطنية في باريس لأنها تحتوي على أكبر مجموعة للمصاحف النادرة في العالم تعود للقرون الأولى وبعضها مكتوب على الرق بماء الذهب.
2- الرعاية والحماية:
ليس تشتت المخطوطات وتوزعها، هو المظهر الوحيد لسوء حالها، فحتى التي حظيت بالضيافة في الكثير من المكتبات العامة والخاصة، تعاني من إهمال شديد تتعرض للآفات والحشرات، ولا يراعى في وضعها أبسط الأسس العلمية لتنظيم الكتب على الرفوف فتوضع وضعا يفسد أوراقها وتجليدها.
فمن أجل الحفاظ عليها لابد من اتباع الوسائل الآتية:
أ- اختيار المكان المناسب: بحيث تتوفر فيه شروط السلامة، الداخلية والخارجية، مجهزا بأحدث الأجهزة لسحب الغبار والأتربة، وأجهزة إنذار الحريق والسرقة، وتحصينه ببناء محكم، مع مراقبة ذلك من طرف متخصصين.
ب- ملاحظة درجات الحرارة والرطوبة في مخزن المخطوطات؛ لأنها تؤثر على أوراق المخطوط، فقد تتقصف أوراق بعضها أو تهترئ أو يتفشى الحبر فيها فتطمس ولا تقرأ البتة.
ج- تعقيم مخازن المخطوطات بشكل دوري منتظم بأدوات التعقيم المتطورة التي تشرف عليها مختبرات متخصصة بواسطة فنيين مؤهلين.
د- ترميم المخطوطات المصابة بالثقوب والخروم والتمزق، بطرق علمية سليمة، مراعى في ذلك أولوية الإنقاذ، على أيدي صنعة مهرة.
هـ_ تصوير المخطوطات العينية الأصلية، والمحافظة على الأصول كما سبق، وإتاحة المصورات للتداول العام.
3- الفهرسة والتكشيف:
تكمن أهمية فهارس المخطوطات في أنها تطلعنا على ما تبقى من تراثنا على قيد الحياة، وتفتح أمام العلماء الباحثين مغاليق تلك الكنوز الخطية الموجودة فوق رفوف المكتبات.
وقد فهرست كثير من المكتبات في العالم، مع اختلاف في طرق الفهرسة ومحتوياتها، وقد بلغت أعداد هذه الفهارس من الكثرة بحيث أصبحت الإحاطة بها أمرا صعبا، لذلك نهض عدد من الباحثين المهتمين بوضع ببليوغرافيات مثل: كارل بروكلمان في”تاريخ الأدب العربي”، وفؤاد سزكين في” تاريخ التراث العربي”.
ونظراً لكون الكثير من هذه الفهارس قد تقادم به العهد، وكثير منها نشرت في مجلات استشراقية ليس من اليسير الاطلاع عليها، فقد أصبح من الضروري إصدار فهارس عامة شاملة لمراكز وجود المخطوطات ومحتوياتاتها، فلذا اقترحت مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) لحل معضلة الفهرسة بشكل عام إنجاز ما يلي:
- معجم مفهرس لمراكز المخطوطات العربية في العالم: العامة منها والخاصة (خزائن، ومساجد، وزوايا، وكنائس ومتاحف،…. وغير ذلك)
- معجم مفهرس للمخطوطات العربية المحفوظة بتلك المراكز.
- معجم مفهرس للمطبوع من المخطوطات العربية في العالم، حاصر لما طبع، قابل سنويا لإلحاق ما يطبع)(1) لنعرف من خلاله ما الذي يحقق وما الذي يترك. حرصا على التقدم العلمي، وإثراء للمجال الفكري.
4- التصوير والتخزين:
إن الاستفادة من تقنيات العصر الحديث ضرورية في هذا الباب، وتقنيات التصوير والتخزين اليوم عالية جدا، فلذلك يتطلب تصوير كل ما تحتوي عليه مكتبات العالم من مخطوطات من أصولها، دون انتقاء أو استثناء، ثم حفظ ما صور وتخزينه بأحدث الوسائل في “مركز جامع لصور المخطوطات العربية في العالم”، على أن يكون الانتفاع به ميسرا حاسوبيا لأي فرد، أو مؤسسة بحث على وجه الأرض(2).
وإذا أنجز هذا سوف تحفظ الأصول، ويسهل الحصول على صور للمخطوط، مع توفير الجهد والوقت.
5- التحقيق والنشر:
إن تحقيق المخطوط ونشره هو الغاية من كل ما سبق، ولكي يعد إعدادا علميا حقا لابد أن يمر بمراحل ثلاث:
مرحلة توثيق النسبة أي توثيق نسبة النص إلى صاحبه.
ثم مرحلة توثيق المتن… حتى يكون النص أقرب شيء للنص الذي خرج من قلم صاحبه إن لم يكن يطابقه.
ثم في مرحلة ثالثة ينبغي أن يخضع هذا النص لعملية تكشيف في مستوياتها الأربعة:
تكشيف أسماء الأعيان، وتكشيف الموضوعات، وتكشيف النقول، وتكشيف المصطلحات. وفي ذلك فوائد يطول الكلام فيها).
فإذا تم ذلك انتقلنا إلى النشر الذي (يتطلب طبع ما وثِّق وحقّق وكشّف، طبعا لا يُفسد ما أُعدَّ، ثم توزيعَه توزيعا واسعا، يعين أكبر العون على ما قُصِد)(3).
——
1- دليل مبدع ص: 4
2- البحث العلمي ومعضلة النص للدكتور: الشاهد البوشيخي ص: 9 (مقال مرقون)
3- أولويات البحث العلمي في الدراسات القرآنية: للدكتور: الشاهد البوشيخي ص: 7 (مقال مرقون).