قال الله جلت حكمته : {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذالك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المومنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}
الهدى الـمنهـاجي
وهو في ثمان رسالات، نفصلها على النحو التالي :
الرسالة الأولى : في أن إكرام الضيف ماديا ومعنويا، بالإيواء وبذل الطعام وإلانة الكلام، من أهم أخلاق الإسلام، ومن أرفع أصوله الاجتماعية والسلوكية. وتعتبر الضيافة في الإسلام حقا على كل مسلم، لها قواعدها وشروطها وآدابها، وذلك لما لها من أثر بليغ في تمتين الروابط الاجتماعية، وتعميق مشاعر الأخوة بين المسلمين. وقد ثبت في ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما في الصحيحين عن أبي شُريح الخزاعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته” قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال : “يوم وليلة. والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة. ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُحرجَهُ”(1)، وفي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي
الله عنه قال : “وإن لزورك عليك حقا”(2)، والزور: الضيف.
وهذه الأخلاق النبيلة مفقودة في المجتمعات الغربية النصرانية اليوم، وإنك لترى النسيج الاجتماعي عندهم متلاشيا هشا، لا تسنده العواطف الصادقة ولا المحبة الخالصة، وإنما هو محمي بقوانين قاسية بئيسة، لا تغني عن مشاعر الأخوة شيئا على الإطلاق. ومن ثم وجب على الدعاة المسلمين الانتباه لهذا، وتجديد خُلق الضيافة والإطعام في بيئاتهم، لأن ذلك أدعى لرعاية حقوق الله وحقوق عباده في الأمة.
الرسالة الثانية : في أن السلام هو تحية الإسلام، وإفشاؤه واجب بالكل على المسلمين، بمعنى أنه مندوب للفرد، لكن حصوله على الإجمال في الأمة واجب، ولا يجوز فقدانه على الإطلاق، كما نشاهده في المدن الصناعية الكبيرة في البلاد الإسلامية فهذه آفة خطيرة يجب القضاء عليها بإفشاء السلام، لا بد من تربية دعوية عامة، تذكر الناس بهذا الواجب العظيم.
إن تحية السلام التي هي تحية أهل الجنة، وتحية الملائكة، بنص القرآن، لها أثر عظيم في شرح القلوب، وتطهيرها من ضغائن الكراهية والغضب، وخاصة مما يوتر الأعصاب في زماننا هذا، من العلاقات الاجتماعية، بسبب طبيعة الأعمال المعاصرة، ذات الضغط الشديد، والسرعة المفتونة، والسباق المجنون.
وإن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل السلام جسرا رحمانيا للعبور إلى القلوب، واكتساب محبتها، وذلك أدعى لقضاء المصالح المتبادلة بين المسلمين بأمان ووئام، وأدعى لفعل الخير، وعدم التشنج، وإكرام الآخرين، بما يزكي النفس المؤمنة، ويرقيها عند الله في درجات الجنة ومن أجمع النصوص في هذا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال : “لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم(3) نعم، بكل هذه البساطة : أفشوا السلام لأن “السلام” اسم من أسماء الله الحسنى، وإفشاء التحية به في كل مكان كفيل بنشر مشاعر السلام بين الناس، وتحقيق سعادة الأمن والأمان في المحيط الاجتماعي، فتتقوى بذلك روابط الأخوة في الدين، ووشائج المحبة في الله.
ولعل نشوء ظاهرة انعدام السلام بين المسلمين في المدن الكبرى، راجع إلى كثرة الناس وقلة المعارف بينهم. وهذا سبب غير مشروع، لأن السلام حق لكل مسلم، سواء عرفته أم لم تعرفه، وذلك بنص الحديث الصحيح، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الإسلام خير؟ قال : “تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف”(4).
وكما ترى من نص هذا الحديث، فإن السلام فيه معنى الإكرام، لارتباطه في السياق بإطعام الطعام، كما أنه عبادة كالصيام والقيام، فأجره عند الله جار على ذلك الوِزان، والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة وفيرة، نختار منها حديث عبد الله ابن سلام رضي الله عنه قال : لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس عليه، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول : “أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام”(5).
وقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الحض على السلام، حتى جعله مطلوبا بين المسلمين كلما التقوا من جديد، بعد لقاء سابق قريب، حتى ولو لم يكن الفارق بين لقائهم السابق واللاحق سوى بضعة ثوان، فانظر إلى هذا الحديث العجيب حقا : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه أيضا”(6)، وقد ثبت أن الصحابة الكرام كانوا يعملون بمقتضى هذا الحديث بصورة تامة، ففي حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكونون في ـ سفر أو نحوه ـ فتستقبلهم الشجرة، فتنطلق طائفة منهم عن يمينها وطائفة عن شمالها، فإذا التقوا سلم بعضهم على بعض)(7).
فإذا عُلم ما لقيمة تحية السلام في الإسلام، وأنها ليست مما يجوز التهاون فيه، ولعل كلمة واحدة ينطق بها المؤمن، ينال بها من الدرجات العلى، ما قد لا يخطر له على بال. أما الآثار النفسية والاجتماعية للسلام فهي أعمق بكثير مما يتصور، بل إنها في حاجة إلى دراسة اجتماعية ونفسية، وبحث ميداني، لنكتشف مدى عمق كلمة السلام في بناء النسيج الاجتماعي في الإسلام وتمتينه وتحصينه.
الرسالة الثالثة : في أن العطاء الإلهي غير مقيد بسنة كونية، ولا مرتهن بقانون طبيعي، وأنه تعالى قادر على أن يهب الولد للعقيم، ولو بعد سن اليأس، فيخلق في رحمها جنينا، بما يخرق كل القوانين البيولوجية والطبيعية. فهو الله الملك الوهاب، سبحانه. وما السنن الكونية والقوانين الطبيعية إلا سُتُر وحُجُب خلقها الله تعالى، ليخفي من ورائها قدرته العظيمة، ومشيئته المكينة، ابتلاء للناس وامتحانا لهم. ولو شاء ـ سبحانه ـ لجعل السماء تمطر من غير غيم، ولا برق، ولا رعود. فلا حد لقدرته، ولا مانع على الإطلاق لتصرف مشيئته.
أما بالنسبة لنا معشر بني آدم، فالأخذ بالسنن والأسباب الطبيعية واجب، لأنها خُلقت لنا، كي نعبد الله بها، ونتعرف إليه بمدارجها ومعارجها. وإنما لا يجوز أن تصبح الأسباب والسنن حُجبا تمنع المؤمن من إبصار جلال الربوبية وجمالها، ومشاهدة تصرف المشيئة وسلطانها. فلو وقع الإنسان في ذلك لكان معناه أنه خسر الامتحان، وصار عبدا للأسباب، أعمى البصيرة.
وعليه، فإن المؤمن العارف بالله حقا لا يزال يسأل الله من فضله، ويطلب منه حاجته، ولو كانت السنن الطبيعية كلها تعبر عن استحالة الوقوع، لكن المؤمن الحق لا ينقطع عن الدعاء، ولا يدخله اليأس أبدا، لأنه يؤمن أن الله لا يعجزه شيء. ولو أنه انقطع ويئس لكان ذلك معناه : أنه اتهم الله سبحانه بالعجز والعياذ بالله.
ولقد شاهدنا غير ما مرة، في أنفسنا وفيما حولنا، ما قرره القرآن في أكثرمن آية، أن الرب الكريم ـ سبحانه ـ يجيب دعاء عبده، ولو كانت السنن كلها في حق ذلك العبد سلبية مانعة. وإن ذلك لهو معنى الابتلاء. وتدبر قول رسول اللهصلى الله عليه وسلم في مناجاته الخاشعة : “أحق ما قال العبد -وكلنا لك عبد- اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد”(8)، والجَدُّ : الحظ والجاه. فما شاء سبحانه كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا عبرة بقانون ولا سنة. فمن عرف الله بهذا فقد عرفه حقا. ذلك امتحان، وإنما ينجح فيه أهل اليقين في الله. جعلني الله وإياكم منهم.
الرسالة الرابعة : في أن حقيقة البُشرى بالولد ذكرا كان أم أنثى، إنما هي كونه عبدا صالحا، عليما بحقوق الله وحقوق عباده، عاملا على ذلك. وإلا كان شرا على نفسه، وبلاء على والديه، وفتنة للناس، والعياذ بالله. فانظر إلى الفرق الكبير -في كتاب الله- بين هذين النموذجين من الولد، فالنموذج الأول قوله تعالى : {يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا}(مريم : 12- 15)، وأما النموذج الثاني : فهو قوله تعالى : {والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين}(الأحقاف : 18).
ولقد شاهدنا فيما حولنا من الناس من يتمنى لو كان عقيما، ولو لم يكن له ولد على الإطلاق، بسبب ما صار يكابد من العنت الكبير والشر المبير، في ترويض أولاده، وهم مع كل ما يبذله من جهود لا يزدادون إلا طغيانا وفجورا. ولقد رأينا في بعض أهل الثراء، من ألقوا أباهم ـ لما حضرته الوفاة ـ على سرير منسي في بعض المستشفيات، وهم يستعجلون موته للاستحواذ على التركة.
ولقد شاهدنا أيضا أن الولد الصالح هو من أعظم النعم الإلهية فعلا، ومن أعظم الكرامات التي ينالها العبد من ربه. فمن طلب الولد مجردا من هذا المعنى العظيم، فقد طلب لنفسه شرا كبيرا. وهذه حقيقة يغفل عنها كثير من الناس، بسبب طغيان شهوة المال والولد.
———-
2-1 – متفق عليه
3- رواه مسلم
4- متفق عليه
5- رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، وصححه الترمذي، وقال الحاكم : “صحيح على شرط الشيخين”، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في الصحيحة : “وهو كما قالا”. كما صححه في صحيح الجامع، وفي تحقيق سنني الترمذي وابن ماجة، وكذا في صحيح الترغيب. وقال الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيق المسند : “رجاله ثقات رجال الشيخين”.
6- رواه أبو داود وابن ماجة. وصححه الألباني في تحقيق سننيهما، وفي صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة.
7- رواه البخاري في الأدب المفرد، والطبراني في الأوسط، وابن السني في عمل اليوم والليلة. وصححه الألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة(1/312).
8- جزء حديث رواه مسلم، ونصه : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : “ربنا لك الحمد ملء السماوات والارض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد ـ وكلنا لك عبد ـ اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد” وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول مثل ذلك دبر كل صلاة، ففي الصحيحين عن المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : “لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد”(متفق عليه).