هذا العنوان بطبيعة ألفاظه يشير إلى أن الأمر عبارة عن نظرات، وليس دراسة معمقة تشخص الحالة تشخيص الأطباء، وتصف لها الدواء وصف الأطباء كلا ثم كلا؛ إنما هي نظرات، لكنها نظرات أحسب أن لصاحبها الحق في أن يلقيها في هذا الموضوع، لاشتغاله بالتربية والتعليم منذ سنة أربع وستين وتسعمائة وألف : تلميذا معلما، في مدرسة تكوين المعلمين، فمعلما شهرا في التعليم الابتدائي، فأستاذا سنة في التعليم الثانوي، فأستاذاً في الجامعة ملحقا فمساعداً فمحاضرا فأستاذاً للتعليم العالي، وظلت التربية والتعليم الشغل الذي كان حتى سنة خمس وألفين والشغل الذي هو كائن، والشغل الذي سيكون، فهي همٌّ مقيم، وهي شغل شاغل، ولذلك تجرأت على أن أتكلم في هذا الموضوع الشاسع الأطراف؛ الشاسع شساعة الأمة، والشاسع شساعة المؤثرات في هذه الأمة في ماضيها وحاضرها.
1 - ألفاظ العنوان :
هذا الموضوع يستعمل ألفاظا مثل لفظ “أزمة” ولفظ “التربية” ولفظ “الأمة الإسلامية”.
والأزمة، عادة ليست هي المشكلة التي تنتظر حلا، وليست هي المعضلة التي يتعذر حلها، ولكنها احتقان يوجد في الواقع، سيمر إن شاء الله عز وجل، إن وجد رجاله.
والتربية، هنا هي بمفهومها الشامل الذي يمكن صياغته، هكذا : إنها ((فن صياغة الإنسان، وفق مقاييس معينة، لتحقيق أهداف معينة))، ولذلك فالتعليم بجميع مراحله جزء منها، وهو الوسيلة الأولى لها، لكن للبيت مكانه، وللمجتمع مكانه، وللبيئة وللإعلام مكانهما… إلى غير ذلك. فالمسهمون في العملية التربوية، أي في عملية صياغة جيل من الأجيال، وفق مقاييس معينة، ليتحقق بذلك الجيل غرض أو أغراض معينة، المسهمون في هذه العملية كثيرون عادة، منهم القاصد، ومنهم العابر. فبهذا المعنى أتناول التربية هنا، وتلقائيا بهذا المعنى، وستحضر الأنواع التي سأقف عندها، والتي أحسب أنها تعاني أزمة.
أما الأمة الإسلامية فهي: هذه الأمة الممتدة -كما يقال- من طنجة إلى جكارتا، والتي يعبر عنها أيضا بـ”العالم الإسلامي”، وهي التي نرجو أن تتطور إيجابيا وتتحضر، لتنتقل إلى وضعها الصحيح : “أمة مسلمة”، لا أمة إسلامية، إذ إن هذه اللفظة الآن تعبر عن واقع صحيح تعبيرا صحيحا أيضا، فهذه الموجودة الآن في شراذم كما تعلمون، المصرح به من هذه الشراذم في منظمة المؤتمر الإسلامي سبع وخمسون دولة، أو ولاية، ضمن دولة منتظرة هي “الولايات المتحدة الإسلامية” سبع وخمسون دولة، هي المصرح به، وإلا فتوجد شراذم كثيرة، كلها تنتمي إما جغرافيا أو تاريخيا أو واقعيا، بنسبة ما مضمونيا، إلى الإسلام، فنسبتها إلى الإسلام نسبة صحيحة، لكن تمثيلها للإسلام، واتصافها بالإسلام، هذا شيء يبقى في الأفق، شيء يظل أملا، عند المتفائلين بتحولات الربيع العربي وما بعد الربيع العربي، هذه التحولات، المتفائلون يرون أنها تفضي قبل نهاية هذا القرن، الخامس عشر – لا الواحد والعشرين، فذاك لا علاقة لنا به- إلى ظهور “الأمة المسلمة”، أي التي تتصف هي بالإسلام وتمثله، وهي التي كانت في دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام. {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}، الأمة كلها مسلمة، بنفس المصطلح والدلالة والمفهوم الذي استعمل به إبراهيم عليه السلام لفظة الإسلام {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين}، وأوصى بذلك الإسلام ذريته {وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}(البقرة : 131). أي قد أسلمتم أمركم كله لله، ودخلتم في السلم كافة، {يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}(البقرة : 206) لا ينبغي أن يبقى عضو : أذن أو عين أو أنف أو فم أو رجل أو أي شيء خارج دائرة الإسلام.
إذن هذه هي الألفاظ العنوان، وبعد ذلك أقول : هل هناك أزمة؟ نعم هناك أزمة فعلا؟ والدليل عليها من جهة واحدة، هي جهة النتيجة، أي: الفشل في الوصول إلى النتيجة. وبيان ذلك يظهر من خلال تتبع أنواع التربية السائدة في الأمة الإسلامية.
2 – أنــواع التربية وطبيعة الأزمة فـيـها:
انطلاقا من المفهوم الذي سبق الحديث عنه للتربية، فإنها تتنوع في تصنيفها إلى ثلاثة أنواع في هذه الأمة الإسلامية الآن:
نوع يمكن تسميته بالتربية الموروثة التقليدية، وما تزال حاضرة في قطاع من الأمة كبير وليس بصغير، ولاسيما الذين لم يقدر لهم أن يدخلهم الغرب في عولمته، أو في طاحونته حتى الساعة.
والتربية الثانية هي التربية المستوردة العصرية التي لم تكن في الأمة، وإنما حضرت يوم حضر الغرب، وهو الذي أنشأها ورباها وترك من يتعهدها وما تزال حاضرة وهي الأكثر والأكبر، وهي التي تكاد تسمى بالتعليم في الأمة الإسلامية كلها من أقصاها إلى أقصاها.
وهناك التربية الثالثة وهي التربية الباعثة التجديدية التي تحاول أن تصوغ إنسانا، يصلح لينشئ مستقبل الأمة، ويصلح للتحضير لغد الأمة، ويصلح لعلاج الأزمة بصفة عامة.
التربية الأولى التربية الموروثة التقليدية أزمتها تتجلى بوضوح في أنها فشلت في تخريج النموذج الذي يحافظ على الذات، بله أن يجدد، وهذه أمرها واضح، لأنها هي الآن الوارثة. عند ما قلت التربية الموروثة، فالموجودون الممثلون لها الآن هم وارثون، وارثون لشيء قريب وليس لشيء بعيد في تاريخ الأمة، وارثون لمرحلة هي التي أهلت الأمة للأسف لكي تكون قابلة للاستعمار، في عبارة الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، فلم تنجح هذه التربية، ولذلك كان ما كان، واستمرارها الآن من باب استمرار بقايا، لا أنها هي الحل.
والتربية الثانية المستوردة العصرية فشلت أيضا، وتتجلى أزمتها في أنها فشلت في تخريج النموذج الذي من الذات ينطلق، لم تستطع هاته التربية أن تنتج الإنسان الذي يمثل ذاته الحضارية، لأنّ الذات ليست هي الجغرافية، ليست هي الطين. الذات أساسا هي الهوية، هي التراث، فلم تنجح هذه التربية لأنها أعرضت عن هذا التراث، وأعرضت عن الهُوية، وأعرضت عن جميع مكونات الذات حقيقة، فلذلك لا نتصور أن تنشئ جيلا يسبق، بل لن تنشئ حتى جيلا ينطلق من الذات، ما نجحت في هذا ولن تنجح، لأنها مستنبتة من الناحية العملية، ومع الزمن تلقائيا ستجتث، فهي الكلمة المقابلة للكلمة الطيبة في الصيرورة التاريخية، هي جاءت نتيجة ضعف في الذات وبقانون الفيزياء تلقائيا يقع هذا الاجتثات لكن بعد أن تهتز الأرض وتربو، بعد أن ينزل عليها الماء {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت} لأن المكان سيرتفع، وارتفاعه سيمنع مجيء شيء جديد خارج الذات ويزيل كل موجود غريب عنها.
والتربية الثالثة: التربية الباعثة التجديدية، والمراد التربية التي تهدف إلى بعث الأمة من جديد، هذه أيضا تعيش أزمة، تتمثل في أنها فشلت حتى الآن. ويمكن أن تنجح غدا في تخريج النموذج الذي يقدم أصل الوحي على كل أصل آخر أو فرع في التاريخ أو في الواقع. لكنها لم تصل إلى هذه المرحلة بعد، فضلا عن الدرجة المتقدمة جدا وهي تخريج النموذج الذي لا يتلقى في أي فرع أو أصل إلا من الأصل. وهاهنا تتجلى أزمتها في نظري، والله أعلم.
3 – خطورة التربية في أي أمة :
ولابراز خطورة التربية في أي أمة أتناولها في ثلاث نقط :
الأولى التربية موجهة للتاريخ، لا أشعر بالحرج أن أقول: إن التربية موجهة للتاريخ خصوصا، التاريخ كما هو في رؤية هذه الأمة، إذ يبتدئ من خلق آدم عليه السلام وينتهي بيوم القيامة. بداية نهاية التاريخ هي بعثة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث ((والساعة كهاتين)) قريب من الساعة. جميع الجهود التي وجَّهت التاريخ حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن – بل حتى الجهود القادمة وإن كنا نترك الحديث عنها من جهة الغيب – ولكن الجهود الماضية في التربية هي التي وجهت التاريخ. جميع الرسل، بمن فيهم أولوا العزم، وجميع الأنبياء وجميع المصلحين من أتباع الأنبياء كلهم صححوا مسيرة التاريخ عندما كان يعرف ضربا من الاعوجاج، لأن الـمُلْك كما تعلمون في الرؤية القرآنية مُسوّى من قبل الله الذي سوّى السموات وسوّى الأرض، وسوّى الإنسان، وسوّى نفس الإنسان، كل شيء سوّاه الله، أي وضعه في الصورة المستوية التي هي في غاية الاستقامة. {ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات}، {ونفس وما سواها}، {ولا تفسدوا في الارض بعد إصلاحها}؛ الكل مسوّى عند الله، والله جعل العالم كله في لحظة انطلاقه في أحسن تقويم، {والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم}. ثم بعد ذلك الإشكال، كان الناس أمة واحدة على الصراط المستقيم فاختلفوا، كما قال سبحانه وتعالى ((وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا )) يونس 19، وكما ورد في الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم فاجتالتهم الشياطين فأضلتهم)). فالذي حدث عبر التاريخ هو أصل الخط دائما كان هو خط الحق، وخط النور: هذا الأصل، ويحدث عنه اعوجاج عند الذين يبغونها عوجا، فيأتي المصححون، وهم الرسل أولا، والأنبياء ثانيا من غير الرسل، والمصلحون الذين يصلحون ما أفسد الناس. هذا الخط مضى منذ هبوط آدم إلى الأرض حتى مجيء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ تاريخ طويل، والآن بقيت بقية، لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي تعرفونه جميعا ((بعثت والساعة كهاتين))، يعني بينه وبين الساعة قدر قليل، كما بين السبابة والوسطى، فالتربية هي التي توجه التاريخ، لأن جميع هؤلاء ربوا بالمفهوم الذي قلت سابقا عن التربية. لقد كان لكل نبي حواريون ولكل نبي أتباع، وهي سنة ماضية، {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} (يوسف : 108)، {فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}(الأعراف : 157)، أي المجموعة التي حملت الحق مع رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. يعني منذ ذلك الوقت، وهكذا الذين يأتون بعد كل الأنبياء وكل المرسلين كان لهم أتباع، كان لهم أصحاب، وكذلك كل المصلحين كان لهم أتباع، وأولئك جميعا – بتعبير اليوم- خضعوا لعملية تربوية بشكل من الأشكال حسب ظروف زمانهم وإمكانات زمانهم، لم يدخلوا إلى مدرسة كما عندنا اليوم بعد أن ظهرت المدارس، ولكن كانت هناك مدارس واقعية عمليا.
لو أخذنا مرحلة مكة مثلا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجد أنها كانت مدرسة كاملة بأماكنها الخاصة في المرحلة الخاصة، وبعيد الخاصة؛ كدار الأرقم وغير دار الأرقم، وكانت لها البيئة العامة أيضا. واستمرت هذه العملية التربوية في المرحلة المدنية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوميا. والله جل جلاله رتب الأمر ترتيبا خاصا لا يستطيع أحد أن يحدث فيه شيئا، كحال الصلوات المكتوبة، على سبيل المثال، خمس مرات في اليوم التي هي أمر المساجد، التي هي الرئة التي تنقي دم الأمة المسلمة.
النقطة الثانية : التربية أيضا هي بانية مستقبل، لأن التربية العادية يخضع لها جيل عادة، ففي استعمال القرآن نفسه، استعملت مرتين في آية الإسراء {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}(الإسراِء : 23- 24)، أو قول الله تعالى على لسان فرعون وهو يتكلم مع موسى عليه السلام، {ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين}(الشعراء : 17) هذا المجهود الذي يكون في هذه المرحلة هو التربية التي يخضع لها الصغار عادة، ولكن هذا في المراحل التي تكون التربية سائرة على نمط مستقر. أما عندما تأتي التصحيحات فإنه يخضع لها كل من تحول مما هو عليه من انحراف أو خطأ، إلى الخط الجديد، إلى الصراط المستقيم، يخضع لتربية عامة، فيدخل فيها الكبير والصغير بصفة عامة، ولذلك تشيع في تلك الطبقة مبادئ معينة، وأخلاق معينة، وأفكار ورؤية معينة، ومناهج معينة، ومبادئ إلى غير ذلك، وبذلك يكون صُنْع المستقبل فيما بعد، وكل أمة لابد أن تسير من هذا الطريق، في الخير وفي الشر أيضا.
والنقطة الثالثة والأخيرة هي أن التربية صانعة المصير : المصير هو ما بعد الدنيا، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تجدون فيها من جدعاء؟)). إذن كل مولود يولد على الإسلام، الفطرة هي هذا الإسلام، {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها}، لا، لم يفطر الله عز وجل بني آدم على أساس أنهم نصارى أو يهود أو مجوس أو خارج دائرة الإيمان، بل فطروا على أساس أن يتجهوا إلى الله جل وعلا، فلو أزيلت المؤثرات نهائيا لعبدوا الله، فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه، هما يصيرانه يهوديا، أو نصرانيا، أو مجوسيا، ولم يقل أو يؤسلمانه، لأن تلك هي الفطرة هذا هو الأصل ((خلقت عبادي حنفاء))، فلذلك فالتربية هي التي تجعل ابن آدم يتجه وجهة بعينها في الحياة، ويؤمن إيمانا بعينه، ويعتقد كما قال عقيدة بعينها ويسير في الحياة وفق منهج أو مذهب أو إلى آخره، ذلك المذهب هو الذي يحدد مصيره في الآخرة، {وإلي المصير}، إذن فالتربية هي التي تحدد المصير، وهذه التربية عمليا هي التي تصوغ الإنسان صياغة معينة، بسببها يكون مصيره في هذا الاتجاه أو في هذا الاتجاه أو في أي اتجاه آخر، وبالتحديد {فريق في الجنة وفريق في السعير}.
(يُتبع في العدد القادم بالحديث عن تجليات الأزمة في التربية)
————-
(ü) الموضوع في أصله محاضرة ألقيت في ندوة افتتاح الموسم السنوي لجمعية النبراس الثقافية بوجدة بتاريخ 29 أكتوبر 2011م، وقد أعدها للنشر الدكتور عبد الرحميم الرحموني