نافذة على حضارتنا


التراث العربي الـمخطوط : أهميته وواقعه

د. مصطفى الزكاف

أولا: أهمية التراث المخطوط وثراؤه وتنوعه.

إن قطرات الوحي  الأولى التي صافحت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء هي: {اقرأ باسم ربك الذي خلق..}الآيات، فانسابت هذه القطرات، من جبل النور لتغدو أنهارا متدفقة، أحيت أمة من مواتها وجعلتها خير أمة أخرجت للناس، وعنوان خيريتها (العلم والفقه في الدين)،  وكان كلام العليم الخبير الذي هو العلم بحق: (مفجر العلوم ومنبعها  ودائرة شمسها ومطلعها، أودع فيه سبحانه وتعالى علم كل شي،


وأبان فيه كل هدى وغي، فترى كل ذي فن منه يستمد وعليه يعتمد).

 فقامت حول القرآن الكريم علوم ومعارف؛ قبست من نوره، ودارت في فلكه، مما أدى إلى نشأة منظومة متكاملة من العلوم والفنون تفاعلتْ فيما بينها، وتواصلت واتصلت، كما شهدت آثار وصناعات وابتكارات متنوعة فيما يتصل بالكون والحياة والإنسان، فلا تكاد تجد مجالا من المجالات إلا وقد ضرب المسلمون بسهم وافر، سواء كان من حقائق المعارف أم بدائع اللطائف.

ومن أراد أن يقف على هذا العطاء العلمي الثر المتنوع المبكر فلينعم النظر في بعض المؤلفات التي رصدت حركة التأليف في التراث منذ بداية التدوين، ومن أطرفها وأمتعها كتاب: الفهرست للنديم(ت385هـ ) وثق فيه صنوفا شتى من العلوم: في الشريعة واللغة والأدب والطب والحساب والهندسة والمنطق والفلاحة والصيدلة والصناعة وغير ذلك.

وإذا أردت بسطة في هذا الباب فأعد النظر ثانية وقف على كتاب: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة (ت 1068هـ )، فستقضي العجب من ثراء هذا التراث وضخامته.

ومن آية ذلك ما نقرؤه في تاريخنا الحضاري المجيد، من عناية الخلفاء والعلماء بالكتب والمكتبات التي عمت جميع أرجاء الدولة الإسلامية وضمت بين جدرانها مئات الآلاف من الكتب من مثل بيت الحكمة ببغداد الذي أسسه الخليفة العباسي المأمون(ت218هـ)، وكان يرسل البعثات شرقا وغربا لجلب الكتب إليه في العلوم النقلية والعقلية، ومكتبة الحكم الثاني المنتصر بالله في الأندلس 355= 366هـ والتي كانت من الضخامة بحيث كانت سجلات فهارسها 44 مجلدا وغير ذلك من المكتبات.

وهذا التراث في حقيقته هو ذاكرة الأمة بل هو ذاتها الحقيقية، وشخصيتها المعنوية الاعتبارية، والأمة التي لا تتمسك بجذورها العريقة الضاربة في عمق المجد والحضارة، أمة يسهل اقتلاعها، ووضعها في جَوَاحِر القافلة بعد أن كانت من هواديها، فذاتنا في تراثنا ومنه يكون المنطلق، وبه يتحدد المسار، وعلى أساسه تبنى الذات الحضارية، وفي ضوئه تتم الرؤية الكاشفة.

ونقف عند نقطة التنوع الفكري في هذا التراث، فلربما يسرع إلى الذهن عند ذكر (التراث المخطوط) ما يتصل بالجانب الأدبي فقط، بيد أن التراث العلمي التجريبي بمصطلح العصر، له حظ وافر من يراع علماء المسلمين، فقد أغنت علوم المسلمين التراث الإنساني، وأمدته بكنوز معرفية جليلة في مجال العلوم الكونية، قامت عليها أسس الحضارة الغربية، وصححت كثيرا مما كان يعتقده أهل اليونان من مسلمات علومهم ومعارفهم، فنجد العالم الحسن بن أحمد الهمداني في القرن الرابع الهجري (345هـ تقريبا):في كتابه: (كتاب الجوهرتين العتيقتين المائعتين الصفراء والبيضاء)؛ أي الذهب والفضة، يقرر كثيرا من الحقائق العلمية في علوم الأرض والكيمياء وتقنيات التعدين ومعالجة المواد وغيرها، ومما وضح فيه بجلاء قانون الجاذبية، وتبين للعلماء بعد نشر كتابه أن إدراك قانون الجاذبية لا يعود إلى نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي، وإنما يعود للهمداني في القرن التاسع للميلاد.

والبيروني (ت440هـ) رأس في علم الفلك وله نظرات رائدة، وكتابه الفريد: (تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) بناه على تحديد سمت القبلة بطريقة علمية رياضية من أي بقعة فوق هذه البسيطة.

و لمحمد بن الحسن الكرخي المتوفى في القرن الخامس الهجري كتاب: (إنباط المياه الخفية)، وهو كتاب نفيس، يُعدّ موسوعة فنية في دراسة المياه الجوفية -حسب المصطلح العصري- واستثمارها. ويقصد المؤلف في عنوان كتابه بالإنباط إخراج الشيء وإظهاره بعد خفاء.

وقد أحس العالم الجليل فؤاد سزكين -حفظه الله- بالجور الكبير الواقع على تراث الأمة، فقضى شطرا من عمره في جمع هذا التراث، وهداه الله إلى طريقة بديعة وهي إعادة تمثيل التراث العلمي وصناعة آلاته، فأقام أكثر من ألف آلة في علوم الفلك والجغرافيا وعلوم البحار وفن الهندسة والخط والبصريات والطب والكيمياء والمعادن والفيزياء والميكانيك وتكنولوجيا الحرب وغيرها، ووضعها في متحف خاص سماه: متحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا الإسلامية باسطنبول، وهو بحق من أروع ما أنجز خدمة للتراث العلمي التجريبي في هذا القرن، يحسن بالزائر معاينته والوقوف عند بدائعه.

ثانيا: توزع التراث المخطوط في العالم وواقعه:

إن ما سلم إلينا من التراث المخطوط قد تفرق أيادي سبأ في مختلف أرجاء المعمورة ، فاستقر قسم كبير منه في البلاد الأوربية في ظروف تاريخية معينة، وبقي القسم الآخر موزعا في البلاد العربية والإسلامية، ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد المخطوطات العربية في العالم، فبعضهم يقدرها ب ثلاثة ملايين، وبعض آخر يوصلها إلى خمسة ملايين، وتحاول: مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي في لندن أن تقدم إحصاء دقيقا لعدد مراكز المخطوطات في العالم، ثم فهرسة ما فيها، وأصدرت كتابا بعنوان:( المخطوطات الإسلامية في العالم) كان مقدمة لهذا المشروع.

وتحتل تركيا المركز الأول عالمياً حيث يقدر عدد المخطوطات في مكتباتها 300000 مخطوط، وتحظى هذه المخطوطات برعاية فائقة، الأمر الذي لا تجده مثيلاتها في كثير من الدول العربية والإسلامية، وقد أنشئ بآخرة باستانبول: مركز المخطوطات، يشرف على جميع مكتبات تركيا، وسيقوم بإصدار فهرس جامع للمخطوطات الموجودة في البلاد حفظا للمكتسب وتسهيلا للطلب.

ويلي تركيا الهند واليمن ومصر والعراق وسوريا والمغرب وتونس والجزائر  وليبيا وغيرها.

وبلدنا المغرب يتوفر على رصيد عظيم من التراث المخطوط يقدر بالآلاف، يعكس عمق الاهتمام بالعلم والمعرفة لدى المغاربة جميعا عبر تاريخهم، وسيظل دوما ذاكرة المغرب الحقيقة بامتياز.

ويتوزع هذا ما بين مكتبات عامة وخاصة، منها: الخزانة الحسنية بالرباط، والمكتبة الوطنية، وخزانة القرويين بفاس، والخزانة الحمزية بإقليم الراشدية، ودار الكتب الناصرية بتمكروت، وخزانة ابن يوسف بمراكش، والخزانة العامة بتطوان، وخزانة الجامع الكبير بمكناس، وهناك خزانات تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمكتبات التابعة لبعض الزوايا المنتشرة عبر أقاليم المغرب، إضافة إلى مكتبات خاصة في ملك أفراد وعائلات.

ويؤسفنا أن نقول في هذا المقام: إن التراث الذي استقر به الحال في البلاد الغربية هو الأحسن حظا، حفظا وصيانة وفهرسة، أما الذي ما زال، لسوء حظه، في عدد من الدول العربية والإسلامية، سواء كان في يد من العائلات، أو المساجد والزوايا، أو حتى في المكتبات الوطنية والوقفية،  فإنه لا يحظى بالرعاية المطلوبة، فكم من النسخ الوحيدة الفريدة، والأعلاق النفيسة، وبعضها من الأصول النادرة موجود في أماكن لا توجد فيها أدنى وسائل الحفظ الممكنة، وهي في ضيافة الأَرَضَة تتغذى منها يوميا حتى تأتي على آخر حرف فيها فينقرض بذلك الأصل النادر؛ فلذا نهيب بالمسؤولين وأصحاب الشأن أن يهبوا لإنقاذ ما تبقى من هذا التراث العظيم، وإعطائه من الحفظ والرعاية والترميم ما يستحقه.

وإن مما يثير العجب أيضا من كثير من الأفراد وبعض المراكز والمكتبات هو الضن الشديد، والشروط المعقدة في الحصول على صورة من المخطوط فيضنون بها على المستفدين، معتقدين أنهم بذلك يحافظون عليها، وهي في وضع يرثى لها، ومع ذلك يعبرون عن حبهم الشديد لها وما دروا أن من الحب ما قتل.

والتراث بمجمله يمثل المخطوط منه أربعة أخماس، فأكثر من ثمانين بالمائة من التراث الباقي -دعك من المفقود- ما يزال ينتظر بذل الجهد الصادق في سبيل جمعه وإعداده وحفظه وتحقيقه ونشره ليستفيد منه الباحثون والدارسون، (فإن العلمَ لا يهلكُ حتى يكونَ سِرا).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>