مـن بـركـات الشهـر الفضيـل… فتح مكـة و انتصـار الإسلام


بعد غزوة الأحزاب التي وقعت في العام الخامس للهجرة والتي كانت آخر هجوم لقوى الشرك في الجزيرة العربية على دولة الإسلام الناشئة قال صلى الله عليه وسلم : ((الآن نغزوهم ولا يغزوننا)) ذلك أن موازين القوى تحولت لصالح دولة الإسلام ودالت دولة الكفر وصارت في أفول.

فأي غزو غزاهم الرحمة المهداة؟ وهل انتقم عليه الصلاة والسلام من مشركي مكة وحلفائهم ليرد لهم بعض كيدهم وعدائهم؟ بل قل كيف دبر الرسول صلى الله عليه وسلم مرحلة قوة

دولة الإسلام وشفوفها على غيرها من القوى داخل الجزيرة العربية؟

 

> إن أول ما قام به المصطفى صلى الله عليه وسلم وبعد عام فقط من غزوة الأحزاب هو خروجه لأداء العمرة، خرج في ألف وأربع مائة أو ألف وخمس مائة من المهاجرين والأنصار “وساق معه الهدي، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه وليعلم الناس أنه إنما خرج زائراً لهذا البيت ومعظما له”(ابن إسحاق السيرة).

انتهى هذا الخروج بعقد صلح الحديبية، ذلك أن قريشا دفعها عنادها لمنع المسلمين من أداء العمرة وأن رسول السلام دفعه حبه للسلام لإنجاز صلح الحديبية الذي كانت أهم شروطه وضع الحرب بين المسلمين وقريش لمدة عشر سنين “يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض”(ابن اسحاق) وفي العمرة إشارة إلى أن الحبيب صلى الله عليه وسلم جاء لإعمار الأرض انطلاقا من أم القرى وفق منهج {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} ولم يأت لقتل الناس وتخريب البلاد. وفي موافقة على شروط صلح الحديبية -من موقف القوي المنتصر- دليل على أن هذا الدين دين السلام من عند الله السلام ويتضاعف انتشاره في فترات السلام ولا ينصره إلا أهل السلام الذين لهم دار السلام.

كان صلح الحديبية مقدمة واضحة لفتح مكة، بل ذهب عدد من المفسرين إلى أن المعني بقوله تعالى : {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} هو صلح الحديبية.

> بعد أقل من شهرين على صلح الحديبية خرج الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون لفتح خيبر في المحرم عام سبعة للهجرة، ففتحها وصالح أهلها، كما سارع يهود وادي القرى وفدك على مصالحة المسلمين على نفس شروط صلح أهل خيبر.

كانت خيبر عاصمة اليهود في الجزيرة العربية وعاصمة المال والنفوذ الاقتصادي اليهودي على سائر العرب ومركز المكر والتخطيط والكيد لدولة الإسلام والرأس المدبر لتأليب قوى الشرك في أحد والخندق وغيرهما لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين، لذلك لم يكن الإسلام ليفتح مكة ولا لباقي قبائل العرب أن تدخل في دين الله أفواجا لولا ضرب النفوذ اليهودي في خيبر والقضاء التام على تأثيرهم في رؤساء العرب.

ثم كانت غزوة مؤتة في جمادى سنة ثمان حين هاجمت قوى مسلمة مؤلفة من ثلاثة آلاف من خيار الصحابة قوى الروم وأحلافها من عرب الشام وهم بين مائة وعشرين ألف ومائتي ألف ورجعوا منها منتصرين -إذ لم ينهزموا- ليوقفوا كيد الإمبراطورية الرومانية وأذنابها في شمال الجزيرة العربية وليبينوا لباقي قبائل العرب أن هذا الدين لا تحده حدود ولا يوقفه بشر.

إذن بعد تشذيب قتادة الأعراب المتربصين والقضاء على نفوذ اليهود الماكرين المؤلبين وزعزعة الروم المتكبرين لم يعد من مانع يمنع المسلمين من دخول مكة إلا شروط صلح الحديبية التي ما فتئت قريش أن نقضتها بإمداد بني بكر -حلفائها بالمال والرجال ضد خزاعة -خلفاء- النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا منهم رجالا وهم بالحرم! ذلك أن قوى الشرك لا مبادئ لها فليس لها وفاء بالعهود ولا صبر على السلم. لأن الإسلام والسلم من نفس جنس الصفاء لذلك ينسجمان ولأن غبار الحرب وظلمة الشرك من نفس جنس العتمة لذلك ينسجمان لذلك هب صادق الوعد عليه الصلاة والسلام لنصرة حلفائه من بني خزاعة على الرغم من محاولات أبي سفيان زعيم مكة تجديد بنود الصلح. لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد دخول مكة فاتحا لا محاربا غازيا وأراد تعظيم حرمات البيت العتيق لا انتهاكها، وأراد إسلام أهلها لا قتلهم وأسرهم، فخطط لذلك تخطيطا في غاية الروعة والدقة وانتبه لكل التفاصيل ليدخل مكة دون إراقة قطرة دم واحدة وهذا لعمري أمر فريد في التاريخ أن تنتصر دولة على أخرى، وتدخل عاصمتها دون إراقة دم، هذا هو منهج الإسلام منهج الرحمة المهداة للعالمين، فكيف تم ذلك :

1- الحرص على مباغتة قريش حتى لا تعلم بالزمن فتستعد له وذلك من خلال أمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز للغزو دون ذكر الوجهة حتى إذا اكتمل جهازهم بين لهم أنه يريد مكة، وكذا دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أن يأخذ العيون والأخبار عن قريش حتى يبغتها في بلادها، وهو الدعاء الذي كشف الله به محاولة حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه إرسال رسالة إلى قريش يخبرها فيها بالذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان متأولا فعفى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشره وإخوانه من أهل بدر أن ((لعل الله اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم))(السيرة لابن هشام). وكانت النتيجة أن بقي الصف المسلم متحداً متراصا متحابا، وبقيت قريش في عمايتها لا تدري ما الرسول فاعل ولا تهتدي سبيلا.

2- إرهاب العدو لإضعاف معنوياته وجعله يقتنع بأن لا طاقة له بمواجهة المسلمين فلا يجرؤ على حمل السلاح وذلك من خلال :

> استنفار قوى كبيرة العدد قوية العدة حسنة التجهيز فكان مع النبيصلى الله عليه وسلمصلى الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار لم يتخلق منهم أحد وكانت معه كل القبائل التي دخلها الإسلام كغفار وسليم ومزينة وغيرها وبلغ العدد الإجمالي عشرة آلاف مقاتل.

> إيقاد عشرة آلاف نار على مر الظهران لتحرق ما تبقى من شجاعة قريش وكبريائها مما دفع زعيمها أبا سفيان إلى الإسراع للإسلام والاستسلام حينما جاء به العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

> أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عمه العباس رضي الله عنه بإيقاف أبي سفيان -زعيم قريش- “بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها”(السيرة لابن هشام) ففعل فزلزلته مظاهر قوة المسلمين وانهارت نفسيته تماما إلى درجة أن قال للعباس “ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة والله يا أبا الفضل”(السيرة لابن هشام).

ثم انطلق يدعو قريشا للاستسلام وعدم المواجهة حقنا لدمائها معتمدا على وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن.

> دخول جيش المسلمين مكة من عدة جهات ليختلط الأمر على بعض قادة قريش الذين يمكن أن يفكروا في المواجهة فلا يطيقون شيئا، لذلك دخلت كتيبة بقيادة الزبير بن العوام من كدي، وكتيبة أخرى بقيادة سعد بن عبادة ثم علي بن أبي طالب من كداء، وكتيبة بقيادة خالد بن الوليد من الليط أسفل مكة وكان أبو عبيدة يتقدم قلب الجيش الذي يقوده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلم تستطع قريش -أمام هذا التخطيط المحكم- إلا أن تستسلم عدا بعض قادتها الموثورين يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو الذين قاموا بمناوشة في مقابل كتيبة خالد بن الوليد انتهت بفرارهم سريعا بعد قتل بعضهم.

تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع فتح مكة : المنتصر المتواضع الرحيم :

حين أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على مكة تحفه الآلاف من جنود الله كان يضع رأسه تواضعا لله حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، وحين سمع أن سعد بن عبادة يتوعد قريشا ويقول ” اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة نزع الراية منه وسلمها لعلي بن أبي طالب، وحين لقيه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابن عمته عبد الله بن أبي أمية وكان من أشد الناس إيذاء له بمكة سامحهما وقبل إسلامهما وحين جاءه أبو بكر بأبيه أبي قحافة وقد بلغ من الكبر عتيا فصار ضريراً ورأسه كأنه ثغامة من شدة بياض الشعر قال له : ((هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه” فأجابه أبو بكر بقوله : “يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت” فأجلسه بين يديه ومسح على صدره ثم قال له : أسلم، فأسلم. بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أحلمك وما أوصلك وأما أرحمك! وحين استتب الأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة وقام خطيباً على باب الكعبة قائلا : ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده… يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء” ثم أرجع مفاتيح الكعبة لعثمان بن طلحة قائلا له : ((هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)) نعم يا رسول الله البر والوفاء. وعلى الرغم من حكمه على بعض كبار المجرمين الذين كانوا أشد المشركين إيذاء له وللمسلمين فإنه عفى عن كل من شفع فيه أحد المسلمين بل قبل شفاعة المسلمات أيضا، غير أن تعامله صلى الله عليه وسلم مع زعماء مكة كان أمرا في غاية الروعة وجب على الأمة أن تدرسه بإمعان لأخذ العبر الكثيرة منه فهذا صفوان بن أمية هرب من مكة يريد اليمن فتشفع فيه عمير بن وهب وطلب له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنه وأعطاه عمامته آية على ذلك فخرج عمير حتى وجد صفوان فأقنعه بالعودة إلى مكة قائلا له “أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، ابن عمك عزه عزك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك)) قال إني أخافه على نفسي، قال هو أحلم من ذلك وأكرم، فرجع حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صفوان : إن هذا يزعم أنك قد أمنتني، قال : صدق. قال فاجعلني فيه بالخيار شهرين (أي امنحني فرصة شهرين أفكر في أمر الإسلام) قال : أنت بالخيار فيه أربعة أشهر.

وأما عكرمة بن أبي جهل فاستأمنت له زوجته فقبل أمانها فأسلم عكرمة وحسن إسلامه وصار من قادة الفتوحات بعد ذلك، وأما سهيل بن عمرو موقع صلح الحديبية والذي أساء أدبه أثناء توقيعها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من لقيه من المسلمين ألا يشد إليه النظر حتى لا يشعروه بشماتتهم به فكان ذلك سبب إسلامه.

وهكذا أسلمت مكة ودخلت في دين الله تعالى طوعاً وكسر الرسول صلى الله عليه وسلم الأصنام وطهر البيت من مظاهر الشرك وأعاد له روح التوحيد وقرأ {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} وبعد ترتيب أمر مكة صار صلى الله عليه وسلم يبعث قادته إلى القبائل العربية يدعون إلى الله ويحطمون الأصنام ويمحونها من قلوب العباد.

خــلاصـة :

لقد كان فتح مكة إيذانا بنهاية الشرك من أرض الجزيرة العربية ودليلا على رسالة التوحيد والسلام التي يحملها الإسلام وآية على حسن التخطيط النبوي وبرهانا على رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن سياسته، وإذنا عاما بدخول كل العرب في دين الله أفواجاً، كل ذلك كان في هذا الشهر المبارك شهر رمضان الذي فضله الله تعالى بنزول القرآن روح الأمة المسلمة وبانتصار بدر فرقان الأمة وبفتح مكة فتح الأمة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>