صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور


لقد دار الزمان دورته، وأظلنا شهر الصوم في فصل الصيف الحار حيث يشتد العطش بالصائمين، ويتضاعف النصب بطول النهار، وقلوب الناس معلَّقة بنهاية النهار؛ لكن أسلافنا لم يكونوا مثلنا؛ كانوا يتذكرون اليوم الآخر، والوقوف بين يدي الله، يوم تدنو الشمس من الرؤوس، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؛ لأنهم علموا أن الجزاء من جنس العمل. والعزيمة على الصيام في الأيام الشديدة الحر من علامات صحة الإيمان، وامتلاء القلب بمحبة الله عز وجل والطمع في ما عنده من جزيل العطاء.

 

فالصائمون ليقينهم الكبير بما عند الله تعالى ورضهم به، صاروا يحبون عبادة الصيام محبة شديدة ولا يبالون بمشقتها، حتى أصبحوا يجدون فيها من اللذة مع ما فيها من التعب والنصب ما لا يجده أصحاب اللهو في شهوتهم الفانية؛ ذلكم أن لذة العبادة كانت تطغى على مشقتها، فتراهم يجتهدون وهم أسعد الناس بما وفقهم الله إليه. ولقد وقعت على نص عجيب يجلي سر هذا الشعور وهذه الأحاسيس، إنها قصة سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه وهو يحكي عن شعوره وهو يدفع ضريبة إيمانه في رمضاء مكة حين كان أمية بن خلف يمارس عليه أشد أنواع العذاب لعله يكفر بمحمد، لكنها حلاوة الإيمان حين تباشر  بشاشة القلوب فتحيلها إلى خزان للقوة الإيمانية التي لا تقهر.

لنتأمل جواب هذا الرجل العظيم عن سؤال حير العقول حين رأت من جلده وصبره على حر الشمس وسخونة الرمال وثقل الأحجار وإيلام السياط.

ما كان شعورك وأنت تُعذب في الرمضاء؟

فيقول  رضي الله عنه : “كنت أمزج مرارة العذاب مع حلاوة الإيمان فتطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب”.

أحد أحد، أحد أحد، شعار القوة التي لا تقهر، وسر الحلاوة التي لا تقاوم.

كثيرا ما نضعف ويفتر تقربنا إلى الله عز وجل، وكثيرا ما نشعر بالشقاء والضنك ونحن نعافس هذه الحياة التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ونتساءل عن السر في ذلك الضنك، إنه ضعف الإيمان وتقهقره، إنها حلاوة الإيمان حين تغيب عنا وتهجر قلوبنا.

لكل داء دواء:

نعم لكل داء دواء علمه من علمه وجهله من جهله، فلقد عرف أسلافنا سر الحياة السعيدة وتذوقوا حلاوة الإيمان، وعلموا أنما الليل والنهار مطيتان إلى الآخرة فأحسَنُوا السير عليهما، ونحن كذالك سنبقى نضل الطريق إذا لم نقتف آثارهم ولم نستن بسنتهم ولم نهتد بهديهم، {أولائك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}

ظمأ الهواجر يضاعف ثواب الصوم:

قال ابن رجب رحمه الله: (ومما يضاعَف ثوابه في شدة الحر من الطاعات الصيام، لما فيه من ظمأ الهواجر)، وقال أيضا: (لما صبر الصائمون لله في الحر على شدة العطش والظمأ، أفرد لهم بابا من أبواب الجنة وهو باب الريان، من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ بعدها أبدا). (لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (ص551و 554)

وعن واصل مولى أبي عيينة عن لقيط بن المغيرة عن أبي بردة أن أبا موسى سمع هاتفا في البحر يقول: “إن الله قضى على نفسه أنه من أعطش نفسه في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر كان حقيقا على الله أن يرويه يوم القيامة. فكان أبو موسى الأشعري يتبع اليوم المعمعاني الشديد الحر فيصومه”.(ابن المبارك في الزهد (ص461) وابن أبي الدنيا في الهواتف (ص23) وأبو نعيم في حلية الأولياء (1/260))

وعن أبي مالك الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ست خصال من الخير: جهاد أعداء الله بالسيف، والصوم في يوم الصيف، وحسن الصبر عند المصيبة، وترك المراء وأنت محق، وتبكير الصلاة في يوم الغيم، وحسن الوضوء في أيام الشتاء”. (البيهقي في شعب الإيمان (3/21))

وفي الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: “لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحار الشديد الحر وإن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة (وعند مسلم عن أبي الدرداء أن ذلك كان في شهر رمضان”.

وكان رضي الله عنه يقول : “صوموا يوما شديدا حره لحر يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور”.

أُبَادر بالصيام أيامي الخوالي..

نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة فدعا بغدائه ورأى أعرابيا فدعاه إلى الغداء معه فقال: دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو ؟ قال: الله تعالى دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم صمت ليوم أشد منه حرا، قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد، قال: ليس ذلك إلي، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه.

وأما الراعي فكان يبادر بالصيام أيامه الخوالي حيث كانت له مع ابن عمر قصة عجيبة… خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنه في سفر ومعه أصحابه فوضعوا سفرة لهم فمر بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم قال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حره وأنت بين هذه الشعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟ فقال: أبادر أيامي هذه الخالية. فعجب منه ابن عمر ثم قال له: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما تفطر عليه ونعطيك ثمنها، قال: إنها ليست لي إنها لمولاي، قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت أكلها الذئب؟ فمضى الراعي وهو رافع أصبعه إلى السماء وهو يقول: فأين الله؟؟ فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه. فلما قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم.

لا تدع أيامك تذهب باطلا..

وأما رُوحُ بن زِنْباع فقد نزلَ منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقُرِّبَ غداؤه، فانحط عليه راعٍ من جبلٍ، فقال يا راعي: هلمّ إلى الغداء، فقال: إني صائم، فقال روح: أَوَ تصوم في هذا الحر الشديد؟ فقال الراعي: أفأدع أيامي تذهب باطلاً. قال فأنشأ روح بن زنباع يقول:

لقد ضَنَنْتَ بأيّامك يا راعي

إذ جاد بها رَوْحُ بن زِنْبَاعِ

(تاريخ ابن معين (4/455)

وكان الإمام أحمد يصوم حتى يكاد يغمى عليه، فيمسح على وجهه بالماء، وسئل عمن يصوم فيشتد عليه الحر، قال: لا بأس أن يبل ثوبا يتبرد به، ويصب عليه الماء” فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء و هو صائم. (ابن رجب في لطائف المعارف(ص553) )

وبلغنا أن أبا ذر كان يقول يا أيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق، صلوا في ظلمة الليل لوحشة القبور، صوموا في الدنيا لحر يوم النشور، تصدقوا مخافة يوم عسير، يا أيها الناس إني لكم ناصح، إني عليكم شفيق”. (أحمد في الزهد (ص148)

- عن سيف بن عمر عن محمد وطلحة أن عامر بن عبد قيس “كان يكون في السواحل، وكان يلقى معاوية فيكثر ويكثر معاوية أن يقول حاجتك، فيقول: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه، قال له: ترد علي من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا فإنه يخف علي في بلادكم” (الطبري في التاريخ (2/640) وابن عساكر في تاريخ دمشق (26/8))

وكان عطاء صائما فدخل الماءَ في يوم صائف فسكن عنه العطش، فقال: يا نفس إنما طلبت لك الراحة، لا دخلت بعد هذا اليوم الماء أبدا.(أبو نعيم في حلية الأولياء (6/222))

وعن علقمة بن مرثد كان يقول : “ما أبكي على دنياكم رغبة فيها، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء”.(أبو نعيم في حلية الأولياء (2/88)

وعن معضد قال: لولا ظمأ الهواجر،  وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل ما باليت أن أكون يعسوبا”. (ابن المبارك في الزهد (ص94) و أبو نعيم في حلية الأولياء (4/159)

وعن إبراهيم بن أدهم قال: ” لولا ثلاث ما باليت أن أكون يعسوبا ظمأ الهواجر وطول ليلة الشتاء والتهجد بكتاب الله عز وجل”. حلية الأولياء (8/23)

وكانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام حرا فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد، تشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم، وهذا من علو الهمة.(ابن رجب في اللطائف(551ص):

- يروى أن الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه في ليلة وفاته قال : أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبا بالموت حبيبا جاء على فاقة، اللهم إني كنت أخافك و أنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لجري الأنهار و لا لغرس الأشجار،  ولكن لظمإ الهواجر ، ومكابدة الليل، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>