الموضوع له شقان أتناول منه بكيفية إجمالية هذا الشق الذي تحدث عنه الأطباء ويتحدث عنه الفقهاء، ونحن نعتبر أن الأطباء والفقهاء في هذا الباب شركاء من حيث إن الطبيب يحاول أن يشخص الحالة المرضية وما يمكن أن يمثله الصيام من تأثير على صحة الإنسان، كما أن الفقيه يحاول أن يعرض مجمل الأقوال والفتاوى المعروفة في باب الصيام فكأن الفقيه أو المفتي يحذر أن يصيب الإنسان في بدنه لذلك يستعين بالطبيب، وكأن الطبيب كذلك يحذر أن يصيب الإنسان في دينه لذلك فهو لا يقوم مقام الفقيه، وإنما يوكل الأمر إلى الفقيه، فهناك تبادل وتعاون على هذا الأساس، بمعنى أن الفقيه يعرف أن ليس بمقدرته أن يُلمّ بما هو طبي فيُحيل عليه، والطبيب كذلك يحيل على الفقيه لأنه يعلم أن الفقيه يدرك أحكام الصيام وتفريعاتها في الكتب الفقهية في المذهب الواحد وفي المذاهب الأخرى، وفي ما آل إليه القول في قضايا النوازل المتعلقة بالصيام.
أريد أن أقول بأن المرض الذي جعله الله تعالى عذراً للانسان هو مرض من حيث الإطار العام يمكن تأطيره، ولكن من حيث التخصيص فإن الطبيب هو الذي يحسم في هذا. وليست هذه هي المرة الوحيدة، والحالة الوحيدة التي يقول فيها الفقه بأن قول الطبيب كفتوى الفقيه.
هناك محطات ومواقف عديدة قال فيها الفقه بأن الأمر مرجوع فيه إلى أهل الخبرة، وأهل الخبرة في هذا الباب هم الأطباء المسلمون، فإذا قالوا -وهم يعرفون ماذا يعني مسألة الصيام بالنسبة للإنسان، وأما من لا يعنيه الصيام ويتسهين به مطلقا فهذا ليست له هذه القدرة على أن يميز بين ما هو صالح وبين ما هو غير صالح، لأنه خارج من هذه الدائرة كلها تماما. ولكن الطبيب المسلم هو نفسه حريص على أن يصوم هو ويصوم الناس، ويحرص على دين الناس، ولذلك فهو إذا نصح فهو ينصح بناء على أن ذلك هو الحق وهو ما انتهى إليه علمه.
قلت إن هذه الأمراض المبيحة للأعذار أو غير المبيحة ليست شيئا واحداً، لأن هناك حالات قد تكون عارضة، وأن هناك مرضا لا يمكن أن يبقى مستداما كالقرحة المعدية التي يمكن أن تُلِمّ بالإنسان في مرحلة ما ثم يبرأ منها ومع ذلك يستصحب الناس القول الأول، ويظل الإنسان يفطر بناء على فتوى لم يعد لها وجود حقيقي وليس لها مجال تنزيل، فهذا الأمر -كما قلت- هو مما يقول به الطب والقول الفصل فيه قول الطبيب -كما ذكرت.
أقول إن هذه الأمراض إن نحن حاولنا تصنيفها قلنا :
أولا إن من الأمراض أمراضا مالا يمكن لصاحبها أن يصوم مطلقا، والصوم متعذر على صاحبها ومستعص، والذي يصوم في مثل هذه الحال يكون آثما ولا يكون مطيعا إذا ظن أنه يطيع الله تعالى بفعل شيء يهلك به بدنه فهو آثم.
ثانيا هناك أمراض وحالات يمكن للإنسان فيها أن يصوم لكن مع مشقة زائدة، مريض يستطيع أن يقضي يومه ولكن مع مشقة زائدة فهذا حينما يصوم فإنما يصوم لقلة فقهه، فوجود تلك المشقة التي لا تمنع من أن يقضي يومه صائما لكن بصعوبات وصعوبات ويجْهد فوق العادي فهذا أيضا يحق له أن يفطر، والذي يستطيع أن يصوم يومه، ولكنه يتخوف بحكم الخبرة وبقول الأطباء من تأخر الشفاء أو ازدياد المرض فهذا كما قال فيه الفقهاء وحذاق المالكية إنه لا يصوم في هذه الحالة إلا جاهل.
وهذا الأمر يصادفنا نحن دائما حينما نُسْأل في بعض المرات عن حالات بعض الناس يقول : أنا أصوم الآن وأنا أستطيع أن أصوم رغم أن الطبيب قال لي ونصحني بأن لا أصوم ولكني أجد من نفسي أنني أستطيع أن أصوم، ودائما الجواب الذي أقول به : إن صاحب الخبرة هو الطبيب لأن الأمر لا يتعلق بالجزاء الفوري المباشر فقد لا يكون هناك خطر داهم أو خطر محقق في اللحظة، بل ربما لا يقع الخطر إلا بعد نهاية رمضان، فليس الخطر هو الذي يراه الانسان مباشرا في جسمه أو يحس به، بل لعله قد يصوم ويكمل صومه وشهره ثم تكون المآلات بعد ذلك سيئة، فأقول إنه إذا توقع أن يسوء حاله أو يتأخر برؤه، ولو أنه في لحظته تلك يستطيع أن يصوم، فإنه -كما قلت- لا يصوم في هذه الحالة إلا جاهلا.
وفي حالة أخرى حينما يكون المرض أو المريض يستوى لديه الصوم وعدمه فلا شك أنه يصوم. إذ هناك أمراض وإن كا نت أمراضا كالكسور في العظم وما إلى ذلك فإنها أمراض لا صلة لها بالصيام وليس للصيام تأثير فيها، فحالته عادية كما لو لم يكن مريضا. وأنا أقول هنا بعض الأشخاص يقرؤون في بعض الكتب الهامشية هنا أو هناك أن فلانا أصيبت أصبعه فلما أفطر قيل له لم أفطرت؟ قال فإني مريض، فهذا ليس من متين الفتوى، وإنما هي أشياء تقال. ولكن الفتوى لا تتأسس عليها. المهم أن المريض الذي لا يتأذى بالصوم عليه أن يصوم.
والحالة الأخيرة من أحوال الصائمين الحالة التي يكون الصيام نفسه جزءاً من العلاج وتتحسن أحوال المريض بالعلاج، ولأن بعض الوصفات يكون فيها الصوم مطلقا، أي ينصح فيها بالصوم في حالات معينة كالجراحة وما إلى ذلك. لاشك أن عدم صيام الإنسان في هذه الحالة إضرار بدينه وببدنه وجسده، فإذا كان هو نفسه ينتفع من ذلك الصوم فلا معنى لأن يفطر لأنه إن أفطر كان مضرا بجسمه ومضرا بدينه.
فهذه حالات أو خانات كبرى داخلها نضع هذه الحالات حالات المرضى.
هؤلاء المرضى يختلفون كذلك باعتبارهم موقفهم أو ما يجدون من هذا الصيام. فحينما يصوم الانسان أو المريض لا تكون حالته حالة واحدة فقد يصوم هذا الانسان ويشق عليه أن يصوم ولا يصوم إلا بمكابدة أو بمعاناة فهذا يكفيه أن يكون قد استعمل هذه الرخصة وأفطر. وأذكر مما أذكره أنه يندرج فيه حالات الحمل والإرضاع وغيرهما من الحالات التي يرجع فيها إلى الأطباء، و لكن هذا المريض يعرف من نفسه أنه يصوم ولكن مع معاناة لذلك لم يكلفه الشرع تحملها.
على العموم هذه الأبواب الكبرى أو الحالات العامة التي يكون عليها المريض.
هذا المريض بالنسبة لمرضه هو أيضا يتنوع إلى حالات :
هناك حالات يجد فيها المريض أو يكون لزاما عليه أن يتعاطى غذاء موزعا على كل الوجبات العادية لأن هناك أمراض تقتضي بذاتها تناول الغداء ولكن من غير أن يضم إلى لحظة واحدة هي ساعة الإفطار أو السحور بل توزع كل ساعات وأوقات اليوم منها بعض حالات السكري وبعض أمراض المعدة. فهذا المريض هو في ذاته مريض ولكن حالته تتطلب أن يتغذى ولكن ليس بطريقة الصائمين وإنما بطريقة توزيع الغذاء على كل أجزاء اليوم أو على معظم أجزاء اليوم.
هناك نوع آخر يتعلق الأمر بمريض تقتضي حالته أن يتعاطى للعلاجات خلال اليوم كله بمعنى أن له حالات يحتاج فيها أن يتغذى وأن يأخذ العلاج صباحا ومساء فهذا يعتبر من أصحاب الأعذار كذلك.
هناك حالات أخرى لا يحتاج فيها المريض إلى غذاء وإنما إلى ماء، خصوصا إذا كان مصابا باجتفاف، فهو قد لا يحتاج إلى طعام، وإنما إلى مياه حتى لا يقع له اجتفاف هذا مثله مثل الذي يتوقف جسمه على الأغذية.
هناك حالات يكون فيها المريض غير متحمل تماما للصيام مطلقا، كالحميات الكثيرة، والإسهال الشديد وتليف الكبد، والسل وحالات هبوط ضغط الدم، فهذه الحالات لا يقوى فيها الجسم مطلقا على الصيام وبنصيحه أي طبيب لأن الجسم لا يستطيع أن يتحمل فيها الصيام.
إذن فهذه -كما ذكرت- خانات كبرى وحالات بعضها يعود إلى المريض نفسه، وإلى طبيعة مرضه، وحالات تعود إلى ما يمكن أن يكون عليه من تلقي الغداء أو الماء أو العلاج أو ما يكون عليه جسده من تقبل وقدرة على الصيام أو عدم الصيام.
إذن هذا هو الإطار العام الذي وددت ذكره، ولا شك أن مداخلات الإخوة الأطباء وحتى الفقهاء تزيد هذه الخانات وضوحا وتشخصها بحيث نَتَمَكَّن مستقبلا من وضع خريطة للمرضى، بمعنى أنه بالرغم من أن الناس يسألون كثيرا ولكن لو وجدت هناك خريطة مساعدة لأن كثيرا من الناس في البوادي لا تكون لهم فرص لزيار الطبيب كل مرة واستشارته في كل ما يعرض لهم، لذلك فلو وجدت خريطة يجتمع فيها الفقهاء والأطباء على ذكر ما لابد من ذكره حتى لا يكون هناك تضييع لشعيرة الصيام لأن هناك من يفتي بإطلاق مجيزا الإفطار بلا مسوغ، وهناك بالمقابل من يشدد على الناس ويلقي بهم إلى التهلكة وكلا الحالتين أصحابها منحرفون وليس صوابا وليس سليما.
وفي الختام أقول هذا القول وأستغفر الله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
—-
(*) محاضرة ألقيت في الندوة التي نظمتها كلية الطب في موضوع صيام المريض بين مقتضيات الطب وأحكام الشرع، بتاريخ : 2013/07/02.