ما يحدث في الشقيقة مصر من أحداث مهولة وجسيمة المخاطر وبجوارها سوريا وقبلهما ومعهما تونس وليبيا والسودان ولبنان واليمن وتركيا والعراق وفلسطين إلخ يدعونا إلى استحضار إرثنا القرآني والنبوي والعجلة إلى الله عز وجل لاستخلاص التوجيهات الربانية والتعاليم النبوية لدفع هذه الشدائد والمحن التي ما فتئت تتنزل في واقع المسلمين كلما تنكب المسلمون عنها
واتخذوها وراء ظهورهم واشتروا بها ثمنا قليلا..
حقا ليس من الصدفة في شيء أن تجتمع كل توابل الاجتراء على الله عز وجل مرة واحدة وبالكثير من بلاد المسلمين، ولا مجال للشك أن هناك مخططا رهيبا بشرت به الإدارة الأمريكية السابقة تحت مسمى “الفوضى الخلاقة”، يتم تنفيذه بكل الدول المذكورة. فإحراق المساجد، وتأجيج الصراع بين السنة والشيعة، والذبح والقتل المجاني بلا رادع، وخروج النساء عاريات الصدور وتظاهرهن أمام المساجد، دون أن ننسى حزمة التصريحات العلمانية فائقة التطاول على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، كل هذه السيناريوهات الممعنة في الوقاحة ليست بريئة تماما، ووراء الأكمة ما وراءها!! لكن، لا ينبغي أن يدفعنا هذا الاستنتاج إلى أن نلغي كل دور لنا في ما آلت إليه أوضاعنا من مأساوية، ونتخذ الفزاعة الخارجية طوق نجاة للتهرب من المساءلة الذاتية فتلك الطريق السالكة إلى ذهاب ريح المسلمين.
لقد كان التفكك الداخلي من أكثر الأسباب مدعاة لانهيار حكم المسلمين في الأندلس، ومرجع ذلك ضعف العقيدة والركون إلى حياة الدعة وإتيان المعاصي والمنكرات جهارا كالخمر الذي شاع شربه في أرجاء الأندلس دون أدنى نهي أو إقامة حد، وإسراف الملوك والخلفاء في تقريب أهل المجون من مطربات وراقصات وإغداق المال عليهن بلا حسيب، في الوقت الذي كان فيه أعداء الخلافة الإسلامية يتقدمون في الجسد العربي ويراكمون السبايا في صفوف نساء المسلمين بلا رد.. كما سجل تاريخ انهيار دولة المسلمين بالأندلس تنازع ذوي السلطة من المسلمين وانحيازهم إلى أعداء الإسلام بل والتحالف معهم ضد إخوانهم، ومن جهة أخرى سجل المؤرخون تفاقم النعرات بشكل كبير بين المسلمين أنفسهم، حيث نقلوا وقائع تنازع العرب والبربر على المناصب واحتدام حروب وخلافات قبلية لأسباب تافهة كما في حالة قبيلتي القيسية واليمانية على سبيل الذكر،
وفي الجانب الدعوي لفت المؤرخون الانتباه إلى صدود ثلة من العلماء عن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث داهنوا أصحاب السلطان وتجنبوا الإنكار عليهم في ظلمهم واستشراء فسوقهم ومجونهم، حتى قال فيهم ابن حزم (ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع المزينون لأهل الشر شرهم الناصرون لهم على فسقهم).
وبعد أن قال أحد شعرائهم في غمرة انبهاره بدفق النعم التي حبا الله بها أهل الأندلس
(يا أهل الأندلس لله دركم *** ماء وظل وأنهار وأشجار)
أتاها أمر الله بجحود نعم ربانية دامت لثمانية قرون، هي عمر حضارة المسلمين الزاهرة بالأندلس، فاستأصل الصليبيون دولتها وطردوا آخر ملوكها أبو عبد الله ذليلا باكيا تتبعه كلمات أمه عائشة الحرة وهي تسخر من دموعه بكلمتها التاريخية البليغة الدلالات:
(إبك مثل النساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال)
فما أوجع تاريخ الأمس وما أشبهه بتاريخ اليوم ونحن نبسط خارطة الدول العربية الإسلامية أمام أعيننا، فتطالعنا بصمات الكثير من هذه المظاهر المؤذنة بحلول البلاء.
قال تعالى : {لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}(سبأ 15 /16).
ولا أحد على امتداد الدول العربية الإسلامية يستطيع أن يكابر وينكر حجم التردي الأخلاقي الناجم عن ضعف الوازع الديني في قلوب المسلمين حد تسجيل ارتفاع مهول لجرائم الاغتصاب ضد الأطفال الصغار، وجرائم زنا المحارم وجرائم اللواط والسحاق والاستعلان بها عبر الفيديوهات. بل إن التدهور الأخلاقي بلغ حدا تراجيديا منذرا بأسوأ البلاء حيث على سبيل الذكر استمعت في الأيام الأخيرة وعلى هامش الامتحانات المغربية لأغنية شبابية باللغة “العرنصية” تسخر من وزير التعليم المغربي وتمجد الغش وتعتبره جسرا لإدخال الفرحة على الآباء وإقامة الأفراح بمناسبة النجاح المغشوش ويعيد في ازدهاء كورال الأغنية كلمة (سنغش وسننجح) on va tricher on va passer..
وفي سياق هذا الوضع التراجيكوميدي، أثلج صدري، وبهرتني بشكل استثنائي كلمات عجيبة للدكتور والداعية حازم شومان حين سئل عن التدابير العاجلة للخروج من وضع الفتنة الكبرى التي تحيط بشقيقتنا الحبيبة مصر (حفظها الله بما حفظ به الذكر الحكيم)، فحض على مغادرة الدعاة لمنابر الخطابة والخروج إلى الناس في مقاهيهم ونواديهم، وفي الفضاءات العامة والخاصة لدعوتهم إلى العودة إلى الله، فيما سماه شومان بالجولات الميدانية، مع إقامة معسكرات الدعوة والتبليغ لإعادة الناس إلى مربع التوكل على الله، والتسلح بالسكينة والهدوء إزاء فتنة لحقت أو كادت عامة المسلمين وخاصتهم، إناثهم وذكورهم.
ويراد في هذه اللحظات العصيبة أن تكسر مصر الباسقة وتفكك كما فكك بلد العراق، وكما تفكك قوى الظلام الآن سوريا بتأجيج حروب الإخوة الأعداء في ربوعها. وما قاله الشيخ شومان وهو يعيب على الدعاة انغماسهم في السياسة وضمور علاقتهم بالناس على مستوى ربطهم بالله ربطا إيمانيا قويا (الشيء الذي أدى إلى فراغ القلوب من نوازع التقوى فسَهُل ملؤها بالمحبوبات الدنيوية وتعبيدها للحاقدين على المشروع الإسلامي)، أمر لا خلاف في صحته..
كما سجل الدكتور الفاضل تحرجه من إعطاء دروس رمضانية على مكاتب القنوات التلفزية في وقت تئن فيه مصر تحت وطأة الجراح والسيوف التي تتناوشها، وأكد على أن دروس التقوى التي يغرسها الصيام في العبد يجب أن يكون محلها الشارع العام، ويجب اعتبار شهر رمضان طوق نجاة لشعب مصر. وما قاله الدكتور شومان صحيح بلا شك، ويجد كل مطلع متبع، بصمة تأسيسه في سير الصحابة الأخيار رفقة المصطفى صلى الله عليه وسلم المعلم الأكبر لفنون وعلوم النصرة الحقة.
ولا غرابة، فقد كان الله عز وجل غايتهم ومبعث جهادهم لبلوغ رضاه، وكان شهر رمضان شهر تزكيتهم وترقيهم الأكبر، فكانت معاركهم وغزواتهم ربانية النصرة بلا منازع..
وإني من منبري هذا المتواضع أعتبر دعوة الشيخ شومان دعوة عامة لسائر الشعوب الإسلامية للتزكي ثم الخروج للدعوة، لأن حبل الخنق سيلتف حول عنق الجميع وبلا استثناء.
ومخطط تقسيم البلاد الإسلامية إلى دويلات طائفية وعرقية بلا حول ولا قوة هو صلب مخطط المفكر الاستراتيجي برنارد لويس و”فريقه التفريقي”، ومشروعه لتقسيم بلداننا يوجد كاملا على صفحات الأنترنيت.
ونحن المغاربة نقول في مثل بليغ جدا (آش عند المقص ما يدي من الدص) وبعبارة أخرى، فنحن نملك أن نكون ذلك الحجر الصلب الذي لا يستطيع المقص المتآمر له اختراقا، إذا اعتكفنا لأيام معدودات ونحن نستقبل شهر التزكي الأكبر، داخل أنفسنا وكنسنا أمراض الحياة الدنيا وراكمنا عدة النصرة وهجرنا فلسفة القعود حتى لا نكون من الذين قال فيهم الحق سبحانه: {ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}(التوبة : 46).