قال الله جلت حكمته : {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم. وفي عاد اذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم. وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين. وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}
أما القصة الثالثة فهي لمحة خاطفة من قصة موسى العظيمة، عليه الصلاة والسلام.
لكنها لمحة كافية لبيان الغرض والقصد، وهو بيان قدرة الله على خلقه، وهيمنته على ملكه، وأن لا نجاة إلا بالدخول طوعا تحت أمره. قال تعالى : {وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم}. بمعنى : ولكم في موسى آية أخرى، إذ أرسلناه إلى فرعون ببرهان عظيم،
ومعجزات قاهرة باهرة، لكن عدو الله فرعون تولى وأعرض عن الحق علوا واستكبارا واستند إلى ركنه، أي إلى قوة سلطانه، من جيشه وملئه المحيط به.
ثم رمى موسى ودعوتَه بسهام الاتهام والتشويه الإعلامي، وقال : ساحر أو مجنون. والسحر صفة تنزع عن صاحبها قدسية الحق، وتصنفه مع أهل الدجل وقلب الحقائق. بينما الجنون نزع لصفة العقل والإرادة الواعية، ونفي للفهم السليم للأشياء مطلقا. فكانت النتيجة أن الجبار عز وجل أخذه وجنوده فنبذهم في اليم والتعبير بالأخذ يدل على معنى العقاب والانتقام كما في قوله تعالى : {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد}(هود : 102). وهو تعبير دال على التمكن من العقاب، والإحاطة القوية الشديدة بالعدو، ولذلك عبر بعدُ بقوله تعالى : {فنبذناهم في اليم وهو مليم} جملة حالية يعود
ضميرها على الطاغية فرعون، بمعنى أنه كان عند إغراقه وجنوده متلبسا بما يلام عليه من الجرائم والطغيان.
واللمحة القصصية الرابعة قوله تعالى : {وفي عاد اذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم}. وعاد قبيلة من العرب البائدة، وهم قوم نبي الله هود عليه السلام، كانوا على الوثنية والشرك، وكانوا قوما طغاة جبارين، فجاءهم رسولهم بالتوحيد والدين الخالص، فكذبوه وسخروا منه، فأهلكهم الله بريح عقيم، وهي الإعصار الشديد، الذي لا يُرجى له نتاج خير، من ري أو لقاح، بل هي ريح مدمرة، تحطم كل شيء، لا تمر على شيء إلا جعلته كالرميم، أي جعلته فتاتا متناثرا، أو حطاما هشا، كالغناء المتناثر هنا وهناك. فالرميم في لغة العرب هو : ما يبس وجَفَّ من النبات وأغصان الشجر، وبلي حتى صار هشا فارغا منخورا، لا يصلح لشيء، ويفسره قوله تعالى في حق عاد
بسورة الحاقة : {فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية}(الحاقة : 8). وقد ذكر المفسرون أن الريح الشديدة كانت تحمل الناس في الهواء فتضربهم على جماجمهم في الأرض، وتحطم عليهم منازلهم، وتصدمهم بالصخور، فلم تزل عليهم كذلك ثمانية أيام، حتى جعلتهم وديارهم كما وصف الله عز وجل كالرميم البالي(1). وهذا الصنف من العذاب مشاهد اليوم في زماننا هذا، في الإعصارات الرهيبة التي تضرب بعض الأقطار بأمر ربها، فتدمر كل شيء، الإنسان، والبنيان، والشجر، والدواب، جميعا، فلا ترحل حتى تخلف وراءها آلاف القتلى والمشردين، والعياذ بالله. وقد رُئيت بعض اللقطات المصورة منها، لسيارات ضخمة، تحطمها الريح كما تحطم البيضة.
واللمحة القصصية الخامسة هي في ثمود، قوم نبي الله صالح صاحب الناقة عليه السلام وهم أيضا من العرب البائدة الهالكة، كانوا أهل شرك وأوثان. وقد كانوا قريبي عهد من قبيلة عاد، لكنهم لم يتعظوا بمصرعهم ولم يعتبروا فعقروا ناقة نبيهم التي جعلها الله لهم آية ومعجزة، وكذبوه وحاصروه، فأهلكهم الجبار عز وجل بصاعقة خارقة، زلزلت أعصابهم وأبدانهم حتى قتلتهم جميعا {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين}. وقد ضرب لهم نبيهم صالح موعدا لهلاكهم، يحل بعد ثلاثة أيام من عقرهم الناقة، وهو قوله تعالى : {وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم…}، أي : فاستكبروا على ربهم، وطغوا على رسوله، وسخروا من وعيده وكذبوه ويفسره قوله تعالى من سورة هود : {فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب}(هود : 65)، ومع شروق اليوم الرابع نزلت بهم صاعقة غريبة من السماء، صاعقة ذات صيحة شديدة، لا تطيقها الأسماع ولا الأعصاب البشرية، فلم تزل تصرخ بهم، وهم ينظرون إلى أجسادهم تتمزق من هولها، منبطحين على الأرض، فما استطاعوا من قيام، بسبب قوة الصراخ الشديد المستمر، ولا استطاعوا فرارا من بأسه، وما كانوا منتصرين على أمر الله، ولا ناجين من عذابه ولم تزل تلك الصاعقة الرهيبة تدوي بهم حتى جعلتهم هلكى خامدين.
ثم قال تعالى في اللمحة القصصية السادسة والأخيرة : {وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}. أي : وقد أهلكنا قوم نوح قبل إهلاك هذه الأمم المذكورة. فقوم نوح أسبق في الزمان من كل الأمم، ونوح عليه السلام كان أول الرسل إلى الناس(2). وكان مهلك قومه بما عُلم في كتاب الله من قصة الطوفان العام. وقوله : {إنهم كانوا قوما فاسقين}، بمعنى : إنهم كانوا منحرفين عن الحق، بشركهم وطغيانهم، فكانوا أول من جرت عليهم سنة الانتقام الإلهي، بالهلاك العام.
وخلاصة هذه القصص الست، أنها سيقت ـ في هذه السورة ـ لبيان صدق وعد الله باليوم الآخر يقينا، وقدرته تعالى على خرق عوائد الطبيعة بشتى أشكالها، فهو سبحانه خالقها، وهو يفعل بها مايريد، كما يريد، ومتى يريد. وأن كل من خالف أمره وطغى وتجبر بغير الحق، فإن سنته جرت بالانتقام الشديد. واطرادُ السنة وثباتها يُنتج في قلوب المبصرين إيمانا بها على مقام اليقين، تماما كما نؤمن بقانون الجاذبية، ونعلم يقينا أن من ألقى بنفسه من على جبل عال، تحطمت جمجمته وأضلاعه. نسأل الله الهدى والثبات، ونسأله تعالى العافية والنجاة، في الحياة الدنيا وبعد الممات.
——
1- تفسير ابن كثير للآية.
2- جاء في حديث الشفاعة المتفق عليه : ((فيأتون نوحا فيقولون : يا نوح أنت أول الرّسل إلى أهل الأرض))، وفيه دليل على أن آدم \ إنما كان نبيّا. وقد استمر الإيمان والتوحيد في الأرض، بعد عهده عشرة قرون، ثم انحرف الناس إلى الشرك وعبادة الأوثان، فبعث الله لهم نوحا عليه السلام، فكان أول رسول في التاريخ البشري.