العدد 400 __ د. عبد الرحمان بوكيلي(*)
القرآن الكريم، كما حفظ الله فيه الألفاظ، فقد حفظ منهج فهمها، ودل على وجه الحكمة في تنزيلها. وسبيل ذلك يبدأ بالتتبع والإحصاء بما يحقق الاستيعاب، ويدل على حجم ورود المصطلحات وطبيعة انتشارها. مما له الأثر الكبير، فهما وتنزيلا، في بيان قيمتها والدلالة على منزلتها بالنسبة إلى غيرها من عموم مصطلحات القرآن الكريم، ومكانتها بالنسبة إلى تلك التي تنتمي إلى أسرتها المفهومية. فالألفاظ القرآنية لم ترد هكذا عبثا، ولم تتكرر هكذا سدى، بل إنها حاملة المفاهيم الهادية للبشرية.
القرآن الكريم يقدم للأمة ثروة مصطلحية هائلة، تمتاز بخصائص لا قبل لغيرها بها. فهي بالنسبة لغيرها كما بيْن الخالق والمخلوق سبحانه. ومن أبرز هذه الخصائص:
أولا: الربانية: فهي ربانية قطعية الثبوت مبنى ومعنى
ثانيا: الحفظ: وهي محصنة من العيوب والمثالب، لا دخل للبشر فيها {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا}(النساء 82)، مختارة بدقة متناهية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ}(القصص 68)، عميقة الدلالة على المراد.
ثالثا: تحمل المفهوم والمنهاج: من خصائص الاصطلاح القرآني أنه هاد للتفكير وموحد للتعبير ومسدد للتدبير على مستوى الأمة. وذلك لأن المصطلحات القرآنية لغة جامعة للأمة كلها… فمن ثَم كانت المصطلحات القرآنية الأرضية الأساس لتخريج الأمة المسلمة الموحدة المنشودة.
رابعا: التناسق مبنى ومعنى: ومن خصائصها الفريدة ذلك التناسق البديع بين المصطلحات القرآنية من حيث بناؤها وفحواها، وذلك التكامل المعجز مع التداخل والتآلف اللطيفين. فانظر التناسق بين الصلاة والزكاة والتآخي والصحبة بينهما مصطلحا ومفهوما، ومدى صعوبة التفريق بينهما والفصل.. لتدرك أن المصطلحات القرآنية ليست منثورة كيفما اتفق، وليست معزولة بعضها عن بعض. وإنما هي جواهر متناسقة متضامنة لتخريج خير أمة أخرجت للناس.
خامسا: ورودها بقدر: ومن عجيب خصائص المصطلحات القرآنية أنها مبثوثة فيه بشكل حكيم، وبأعداد مقدرة أيما تقدير… فهي أشبه ما تكون بمكونات الماء والهواء. لكل مادة وجود مقدر، وأيما خلل في ذلك فهو خلل في الميزان، وهو، من ثَمّ، الفساد بقدر ما اختل.
فالناظر في كتاب الله تعالى يجد تفاوتا كبيرا بين المصطلحات من حيث انتشارها ومن حيث عدد ورودها ومن حيث صيغها. فبعضها ظهر مع بداية التنزل، نحو مصطلح (القراءة) و(الصلاة) و(التقوى)، وبعضها ظهر بعد سنوات نحو (الجهاد)… وبعضها ظهر في المدينة وما ظهر قبل ذلك نحو (النفاق) و (الجزية)… وبعضها ورد آلاف المرات نحو (الله)، وبعضها مئات، نحو (التقوى)، وبعضها عشرات (الجهاد)، وبعضها مرات قليلة نحو (الشورى).
والله تعالى منزه عن العبث في كل هذا، سبحانه، وكلامه الحكيم منزه عن الحشو. فحجم الورود له دلالاته، وتنوع الصيغ له مقاصده، وتكرار اللفظ له غاياته… فالقرآن الكريم يرقى قارئه ومتعلمه بعدد الحروف التي يتلوها، وبعدد الألفاظ التي يحفظها، وبعدد الآيات التي يتدارسها.
——-
(*) أستاذ بمركز تكوين الأساتذة – المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين – مكناس- المغرب.