العلم وحده لا يكفي


على خلاف العلماء الذين سبقوه لم يعتبر “نيوتن” العالم ذا طبيعة رياضية بالضرورة، ولم يفترض أن الرياضيات هي المفتاح الوحيد للحقيقة. وكان يقول “أرجو أن تلقي هذه المبادىء التي تمّ إرساؤها بعض الضوء على الأسلوب الرياضي، أو أي أسلوب فلسفي آخر أصدق منه “. وبعد أن ثبتت له فعالية الأسلوب الرياضي، قرر استخدامه ولكن ضمن تحفظات أكيدة، وكان يقول “إن العلم بشكله الرياضي المفترض كان مغامرة. ربما لزم أن تأتي بأسلوب آخر أكثر صدقاً”.

أسلوب آخر أكثر صدقاً!! إننا هنا في الشرق، في عصور انحطاطنا الحضاري، لا يمكننا بحال أن نتصور طريقة علمية ما، رياضية أم تجريبية، أم أية طريقة أخرى، يمكن أن تعد مغامرة وأن بالإمكان الإتيان بطريقة أخرى.. إننا هنا نرفض المساس حتى بالنظريات والرؤى التي تطرحها المناهج العلمية.

فالفرويدية في وقت ما كان التشكيك بها يعد كفراً بواحا ومروقاً عن حظيرة العلم.

والمادية التاريخية كان نقدها يعد بالنسبة لقطاع واسع من المثقفين المقلّدين خروجاً على الأسلوب العلمي وضرباً في الخرافة! هذا بالنسبة لنتائج البحث، فكيف بالنسبة للمنهج نفسه؟

أما في الغرب، حيث صنعت هذه المناهج طيلة القرون الأخيرة وأنتجت نظرياتها وقوانينها بالتالي، فإن بمقدورهم -هناك- أن ينقدوا ويشككوا ويستبدلوا أسلوباً بأسلوب ومنهجاً بمنهج، ناهيك عن رفض نظريات بكاملها وطرح نقائض بديلة لها تماماً.. إنهم صناع حضارة، ونحن في عصورنا الأخيرة مستوردو حضارة، ومن ثم يجدون أنفسهم قادرين -بثقة- على التغيير والاستبدال فيما صنعته أيديهم وصاغته عقولهم، ونحن نجد أنفسنا عاجزين عن النقد الحرّ والتغيير والاستبدال.

على أية حال فإن نظرة ” نيوتن ” التي هيمنت على أوساط العالم العلمية لمدة تقارب المائتي عام وجدت أنها غير كافية! والذي يجري الآن هو استبدالها والإتيان بنظرة مختلفة. وذلك هو ما دعي الثورة الحديثة في العلوم. ولقد أصبح الآن واضحاً أن المضامين الفلسفية للنظرة الجديدة تختلف اختلافاً بيّناً عن مضامين النظرة القديمة، وذلك على الرغم من أن عملية إعادة البناء لم تكتمل بعد.

وستظل عملية إعادة البناء قائمة هناك ما دامت لديهم الرغبة الأصيلة في التقدم. ويوم يعتقد الغربيون أن عملية البناء قد استكملت فمعنى ذلك أن شمس حضارتهم قد آذنت بالأفول.

والنتيجة أن العلم أصبح شديد الحساسية ومتواضعاً، ولم نعد نلقّن الآن أن الأسلوب العلمي هوالأسلوب الوحيد الناجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة.

هذا ما يقوله العلماء أنفسهم.. أما المقلّدون في ديارنا فإنهم يرفضون ذلك، ويتشنّجون إزاء أية محاولة تستهدف نقد قدرة العلم على حل لغز الحياة والوجود. فإذا ما قيل لهم إن هنالك أسلوباً آخر للمعرفة لن يتم فهم الحياة إلاّ بمعونته، وذلك هو الدين، فغروا أفواههم دهشة ولووا أشداقهم ازدراء!! ذلك أننا ما زلنا نلقن بأن الأسلوب العلمي هو الأسلوب الوحيد الناجح لاكتساب المعرفة عن الحقيقة، وأنه لا حاجة للدين!

إن عدداً من رجال العلم البارزين اليوم يصّرون بمنتهى الحماس، على حقيقة مؤداها أن العلم لا يقدم لنا سوى معرفة جزئية عن الحقيقة وأن علينا لذلك أن لا نعتبر، أو يطلب إلينا أن نعتبر كل شيء يستطيع العلم تجاهله مجرد وهم من الأوهام.

إن الحماسة التي يظهرها رجال العلم هؤلاء فيما يتعلق بفكرتهم القائلة بأن للعلم حدوداً، ليست مما يثير العجب في حقيقة الأمر. فلو اعتبر ما يقدمه العلم على أنه الحقيقة النهائية فإن الإنسان نفسه لن يكون سوى ناتج غرضي مشتق من آلات رياضية هائلة لا عقل لها ولا غرض. فعلينا إذن أن لا ندهش إذا وجدنا أن الاكتشاف القائل: بأن العلم لم يعد يجبرنا على الإيمان بتفاهتنا بالضرورة، قد لاقى ترحيباً وتهليلاً حتى من بعض رجال العلم أنفسهم.

وعلى أية حال فإن الأجزاء الأخرى من الحقيقة، الأجزاء الاشمل والأوسع والأعمق، تندّ بالضرورة عن قدرة العلم على الإحاطة، وهنا تبدو القيمة الحقيقية للدين.. إن الذين يقولون هذا ليسوا أناساً عاديين ولا فلاسفة أو أدباء، إنما هم رجال علم بارزون يعبرون عن قناعاتهم بأشد درجات الحماس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>