مع كتاب الله عز وجل
رسالات الهدى الـمنهاجي في سورة “الذاريات”(7)
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
قال الله جلت حكمته : {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذالك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}
البيان العام :
يعرض القرآن المجيد في هذه الآيات الكريمات ست قصص، بشكل مختصر وجيز، لكن بعبارات متينة، مكتنزة بالحكمة، تسلط أضواء خاطفة قوية، على مشاهد من تجليات العظمة الإلهية، وقدرته تعالى على العطاء والإنعام بما أراد، لمن أراد، كما أراد.
وكذا تجليات القدرة الإلهية في العقاب والانتقام من الطغاة الظالمين. وهذه القصص الست سيقت في هذه السورة، لبيان غلبة الله على أمره، وقدرته تعالى على خلقه، بحيث لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الكفار مهما طغوا وتجبروا فإنهم في قبضة يده، متى أراد أهلكهم ودمرهم تدميرا، وقد جعل لذلك سنة جارية ثابتة، ليقرأها الناس ويتفقهوا فيها، رحمة بهم ونذارة لهم، سنة لها أسبابها ومقدماتها، ولها نتائجها المترتبة عنها حتما، ولو بعد حين. فكان تكرار ذلك واستقراره على منهج واحد، مؤديا إلى ترسيخ أن وعد الله حق يقين، لا يدخله شك ولا ريب، وأن التاريخ شاهد بذلك، إلى جانب آيات الله في الأنفس والآفاق، مما تدارسناه بالمجلس السابق.
فكل هذا وذاك مفض إلى نتيجة أساس، وهي أن التكذيب باليوم الآخر وما فيه، أمر مرفوض قطعا من لدن الرحمن، مرفوض بشدة، وأن من كذب رسله، وعصى أمره قصمه، وأنه لا نجاة لأمة ولا لبشر إلا بالدخول تحت أمان اليقين. ونبين ذلك بحول الله فيما يلي :
أما القصة الأولى فهي مشهد من حياة نبي الله إبراهيم عليه السلام، وهي قصة متداخلة مع مشهد آخر من قصة نبي الله لوط عليه السلام ، ولم يُذكر اسم النبي لوط هنا، وإنما ذُكر قومه المجرمون لبيان مصيرهم الشقي، ولذلك فقد عددناهما قصتين، لا قصة واحدة، رغم اندماجهما في سياق واحد، وذلك لاختلاف التجلي في القصتين بين الإنعام والانتقام.
قال تعالى : {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}. فهذا الاستفهام الذي ابتُدئت به القصة {هل أتاك} بمعنى : هل بلغك؟ أو هل علمت؟ ليس المقصود منه السؤال، وإنما هو أسلوب عربي للتنبيه والتشويق لسماع القصة، وكذلك التعبير بلفظ “حديث” فيه دلالة على ما يستأنسه الناس من سماع الجديد من الكلام، وما جُبلت عليه الفطرة الإنسانية من حب سماع الأخبار. وإنما سمي الحديث “حديثا” في الأصل، لحداثة خبره، وجدته على السامع، حتى ولو كانت واقعته قديمة، ثم صار كل كلام حديثا.
ومن ثم كان التعبير بقوله تعالى : {هل أتاك حديث… الآية، تنبيها مركبا، القصد منه أن يستجمع المتلقي كافة قواه النفسية والعقلية لتتبع القصة، واستيعاب الحدث من بدايته إلى نهايته، فيحصل الفهم الأكمل، والتدبر الأعمق.
والمقصود بالضيف في الآية : {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين}، جماعة من الملائكة. والضيف لفظ يقع على المفرد والجمع سواء، وأقل الجمع ثلاثة. وقد اختلفت كتب التفسير في عددهم وأعيانهم، فقيل : إنهم ثلاثة : جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل غير ذلك. والحق أنه لم يثبت في هذا نص من كتاب أو سنة صحيحة، يكون حجة في التحديد والتعيين. وإنما العبرة عندنا بما أجمله القرآن من أمرهم، وأنهم ملائكة من ملائكة الرحمن نزلوا في صورة بشرية على إبراهيم، فدخلوا عليه مدخل الضيف. وحلاهم الله تعالى بوصف {المكرمين} لما حصل لهم من إكرام إبراهيم عليه السلام، وقد كان إكراما عظيما، ولما في ذلك الوصف أيضا من الإشارة اللطيفة إلى طرافة الحدث، وعدم انتباه الخليل عليه السلام إلى طبيعتهم الملائكية، فعاملهم بما يعامل به ضيوف البشر من الإطعام والإكرام، فإذا بهم ملائكة يحملون له أخبارا عظيمة من الخير والشر. فكانت النتيجة على غير ما توقع.
والآيات تشير إلى بعض التفاصيل في الإكرام النبوي، والخُلق الإسلامي الرفيع في الضيافة، كما أن المفسرين وقفوا كثيرا عند اختلاف عبارة “السلام” في الآية ما بين النصب والرفع، في كل من قول الملائكة وقول إبراهيم عليه السلام ، لما في ذلك من دلالة على رد التحية بأحسن منها. وهو قوله تعالى : {إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون}، فقول الملائكة : “سلاما” هو مصدر دال على الجملة الفعلية، كأنهم قالوا : (نسلم عليك سلاما)، بينما قوله : “سلام” هو دال على جملة اسمية تقديرها : (هذا سلام عليكم). ومعروف أن الجملة الإسمية -عكس الفعلية- أدل على الثبات والاستقرار وعدم التغير، فكأنه قال لهم : سلامي عليكم هو سلام ابدي خالد. وبذلك يكون إبراهيم قد رد التحية بأحسن منها.
وأما قوله : {قوم منكرون} فنحن نرجح أنه حديث نفسي وقع في ذهن إبراهيم، إذ التصريح به في وجوههم مناف لأدب الاستقبال، وهو جملة غير منطوقة تقديرها : {هؤلاء قوم منكرون}، إنه استغراب نفسي من إبراهيم كشفه القرآن، إمعانا في بيان خُلق الكرم العظيم، الذي كان نبي الله الخليل يتمتع به، إذ أكرم قوما بحفاوة بالغة، وهو لا يعرف منهم أحدا، ولا حتى ما جاء بهم ومن ثم قال : {فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون}، والتعبير بفعل “راغ” لطيف عجيب، لأن الروغ والروغان هو الميلان في السير إلى الشيء، بحيث لا يُفهم من الرائغ قصدُه بالضبط. والمقصود هنا أن إبراهيم عليه السلام دخل على زوجته من مدخل خفي، أو بطريقة لا تُوحي بأنه سيأتي بطعام، أو أنه سيأمر بإعداد طعام، وذلك تلافيا لمبادرة الضيوف إلى منعه من إعداد الطعام. كما أن من كمال الإكرام مفاجأة الضيف بالمائدة جاهزة، وعدم استشارته في ذلك، لأن الاستشارة تحمل نوعا من الاعتذار عن الإكرام، كقول القائل لضيفه مثلا : هل ترغب في طعام؟ أو ما تحب أن تأكل؟ فهذا وأضرابه إنما هو في الحقيقة يحمل في طياته رغبة في التهرب من قِرى الضيف وإكرامه.
فقوله : {فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين}، دال على أنه تحرك بخفاء، فاختار عجلا سمينا من حظيرته ـ وقد كان إبراهيم صاحب بقر كما قيل ـ فذبحه ثم أدخله في تنور الشواء، فلم يمض إلا وقت يسير حتى كان قد وضعه مشويا على مائدة ضيفه وضعه بين أيديهم حيث هم جالسون، ولم ينقلهم إلى مكان غيره، بل قربه إليهم. وفي ذلك من أدب الإكرام والحفاوة بالضيف ما فيه. وقد كان التعبير بفاء العطف في سائر الجمل دالا على تتابع العمل وتعاقبه، لا تراخي فيه ولا بطء. لكن المفاجأة أن الضيف لم يأكلوا فتلطف بهم إبراهيم عليه السلام بكلمة ترحيب : {قال ألا تأكلون} وهو تعبير لطيف فيه من التحبيب والتقريب، ما يشرح صدر الضيف ويفتح شهيته، إذ عبر بصيغة الاستفهام الدالة ـ في هذا السياق ـ على الحض والترغيب في الأكل، دون العبارات الخشنة الجافة، التي تنبني على الأوامر الصارمة المنفرة لكن الضيف مع ذلك لم يأكلوا، وهنا ارتاع قلب إبراهيم عليه السلام، وداخله الخوف، لأن العادة أن إمساك الإنسان عن طعام شخص ما، لا يكون إلا لشر يريده الممتنع عن الطعام. وقد عبر تعالى عن هذا الموقف نفسه في سورة هود بقوله سبحانه : {فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط}(هود : 70).
وقال هنا في الذاريات : {فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم}. وهذا من أروع المفاجآت فأن يتحول حال الإنسان في لحظة واحدة، من الخوف والتوجس وتوقع الشر، مباشرة إلى فرح كبير، وأمن عظيم، وسلام مكين، حيث يكتشف إبراهيم حقيقة الضيف، وإنما هم ملائكة الرحمن، ويتلقى منهم -فوق ذلك- خبرا سارا يهمه في حياته الخاصة، بشرى غلام عليم يكون له من زوجه العجوز العقيم، فإن ذلك كله مما لا تطيقه خفقات القلب فرحا.
والجميل في التعبير أنه بمجرد ما دخل إبراهيمَ الخوفُ، وظهرت علاماته على وجهه، بادر الملائكةُ إلى طمأنته، وطرد الشعور بالخوف من فؤاده، بالكشف عن هويتهم الملائكية الكريمة، وتعزيزها بإلقاء بشرى الولد، بردا وسلاما على إبراهيم. فالرسول آمن عند ربه، وما كان ليروعه شيء ولا أحد أبدا وإنما كان خوف إبراهيم عليه السلام توجسا، أي شعورا خفيا، فقوله : {فأوجس} من الوجْس، وهو : إضمار الشعور بالخوف في النفس(1). ومع ذلك سارعت الملائكة إلى طرد ذلك الخاطر من قلبه، وتمكين وجدانه من رَوح الأمن والسلام.
وأما الغلام العليم المبشر به ههنا، فقد كان نبي الله إسحاق عليه السلام. والنبوة رأس العلم وقمته. وإسحاق هو المصرح به في سورة هود، قال تعالى : {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب}(هود : 71). والمرأة المذكورة هي سارة زوج إبراهيم، وكانت امرأة عقيما منذ شبابها الأول، وبقيت مع إبراهيم حتى شاخا ولم تنجب له شيئا، مع أنه هو عليه السلام أنجب من هاجر سريته ولده إسماعيل عليه السلام، الذي وُلد له قبل إسحاق، ولذلك لما سمعت سارة البشرى من الملائكة بهتتها المفاجأة، فصرخت برنة، ولطمت وجهها تعجبا فالصَّرَّة : الصيحة، وهو الصياح. والصَّكُّ : اللطم والصفع. وهو قوله تعالى : {فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم} وقد ورد أنها قالت في صرتها أو صيحتها : “يا ويلتى”(2)، جاء ذلك في قوله تعالى من سورة هود : {قالت ياويلتى ءالد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب}(هود : 72). كل ذلك تصرفات نسوية، وردود أفعال أنثوية، تقع منهن كلما فزعن أو تلقين خبرا غريبا. وقد سجلها القرآن هنا بدقة، وبين أنها أمور من عادات النساء منذ الزمان القديم.
وجاء جواب الملائكة الكرام قاطعا لتعجب سارة واستغرابها للبُشرى :{قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم}، أي : كذلك قضى ربك. فقول الله هنا قضاؤه وقدره. وإذا كان الله جل جلاله هو الذي قضى الأمر وقدره، انتفى التعجب والاستغراب، لأنه سبحانه هو رب العالم، الذي يُخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له : “كن فيكون” لا عبرة عنده بسنة جارية، ولا عادة ثابتة، ولا قانون مطرد، لأنه هو تعالى خالق السنن والطبائع والقوانين الكونية جميعا، إذا شاء أعملها وإذا شاء خرقها وأهملها.
وهو سبحانه الحكيم في كل ما قضى وقدر، العليم بما لقضائه من منافع ومصالح في معاش الناس ومعادهم. وقد قضى سبحانه أن يكون إسحاق نبيا يرث من إبراهيم دعوة التوحيد في بلاد الشام، ثم يورثها لابنه يعقوب عليه السلام ، فيتناقلها أنبياء بني إسرائيل إلى عهد عيسى عليه السلام ، كما ورث إسماعيل النبوة من أبيه إبراهيم في أرض الحجاز، وبث دعوة التوحيد في عرب الجزيرة، واستمرت زمنا، حتى حرفها المشركون، فبعث الله من نسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، بتجديد دين إبراهيم عليه السلام ورسولا إلى كل العالمين، إلى يوم الدين.
—-
1- جاء في الصحاح : (الوَجْس : الصوت الخفي. والوجس أيضا : فزعة القلب. والواجس : الهاجس. وأوجس في نفسه خيفة، أي أضمر، وكذلك التوجس. والتوجس أيضا : التسمع إلى الصوت الخفي) مادة : “وجس”.
2- أصل النداء بالويل في العربية : الدعاء بالشر والهلاك، ولكنه قد يرد بمعنى التعجب والاستغراب الشديد، كما هو هنا. ن. مادة “ويل” في لسان العرب.