شرح الأربعين الأدبية(17)


 في ضوابط المدح

روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ((أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: وَيْلَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلَانًا وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ))(1).

في الحديث النبوي أربعة أمور:

-أولها ثناء رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند الإمام مسلم ((مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم))(2)، وفي ثانية ((أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنْ رَجُلٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ مِنْهُ فِى كَذَا وَكَذَا))(3)، ففيه:

أن رجلا مدح رجلا آخر،

وأنه مدحه عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأن موضوع المدح تفضيل الرجل بإطلاق على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور.

-والأمر الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم  لما سَمِع مَدْح المادح علّق عليه بقوله: ((وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، مِرَارًا))، وفيه:

أن النبي صلى الله عليه وسلم  عبّر عن موقفه مِن مَدح الرجل بثلاثة أمور:

بلفظ ((ويلك))، وفي رواية ((ويحك))(4).

وبقوله: ((قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ)).

وبتكرار قوله مرارا.

و((ويح)) ((كلمة ترَحُّم تُقال لِمن وَقع في هلكة لا يستحقها))(5)، وهي ((كلمة رحمة لمن تنزل به بلية))(6)، و((ويل)) ((كلمة مثل ويح، إلا أنها كلمة عذاب))(7)، وبناء على دلالة الكلمتين فأقل احتمال للفظ ترحم وإشفاق على المادح لما أوقع نفسه فيه.

وكلمة ((ويلك)) أو ((ويحك)) وحدها كافية للتعبير عن الموقف من مَدْح المادِح، فكيف إذا أضيف إليها أن الرسول صلى الله عليه وسلم جَعل ذلك المدح قَطعاً لعنق الممدوح، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك أنه كَرر عبَارةَ القَطع مرارا.

وقَوْل النبي صلى الله عليه وسلم ((قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ))،  شديدُ الصلة بالحديث الذي كانت لنا معه وقفةٌ مِن قبل، وهو: ((وإياكم والمدح فإنه الذبح))(8)، وكلاهما دال على الإهلاك، إذ معناه ((أهلكتموه، وهذه استعارة مِن قَطْع العنق الذي هو القتل لاشتراكهما في الهلاك))(9)، مع العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تجاوز في حديث الباب مجرد الذبح إلى القطع، والقطع ولا شك أشنع، ولعل لذلك علاقة بالسياق؛ لأن حديث الذبح وصاة نبوية قبل الوقوع، بينما حديث القطع تعليق على نازلة وقعت أمامه.

-وأما الأمر الثالث من الأمور التي تضمنها الحديث فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع موقفه مِن مَدح المادح بتوجيه يُفهم مِنه أن المدْح في حد ذاته قد لا يكون مذموما، وإنما المذموم طريقة المدح، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ )).

وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم عمَّم الخطاب (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ)، فدل على أن الأمر يعُمّ كل مادح.

وأن المدح ليس واحدا؛ لأنه (عاب المدْح الذي سمعه، وفي الوقت نفسه لم يُغلق باب المدح (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ).

وأنَ دوافع المدح مختلفة.

-وأن جواز المدح مرتبط بشروط :

منها أن يكون ضرورة (لَا مَحَالَةَ).

ومنها أن يكون للإخوان والأحباب (مَادِحًا أَخَاهُ)، وفي رواية (مَادِحًا صَاحِبَهُ) (10)، فخرج مدح الأعداء والمنافقين والظلمة…

ومنها أن يَمدح المرءَ بما يَعلمه منه (إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ)، فشرط المدح الصدق.

ومنها أن لا يطلق القول فيه؛ بل أن يستثني (فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلَانًا… أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا).

ومنها أن يَترك ما خَفي عنه لله تعالى (وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا).

-وبذلك ظهر أن المدح مدحان:

مَدْح مذموم، وقد كانت لنا معه وقفات في البابين السابقين،  وإليه ألمحنا بالحديث السالف الذكر ((وإياكم والمدح فإنه الذبح)).

ومَدْح محمود، ولا يكون محمودا إلا بشروط، ومن الشروط ما رأيناه آنفا.

ثم إن حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المدح اختلف في الأسلوب، فإذا كان يَتضمن موقفا عاما من المدح أولا، ثم استثناء للمدح الضروري ثانيا، ثم توجيها للمادح ثالثا، فإننا قد رأينا في البابين السابقين منعا للمدح، ودعوة إلى حثو التراب في وجوه المداحين دون أن يُذكر في ذلك استثناء، فدل على أن ذلك هو الأصل في المدح؛ لأن الحديث عنه والموقف منه مطلق، ولعمري إن قراءة في مسار المدح في تاريخ الأدب العربي ليزيد قلوبنا اطمئنانا إلى طبيعة هذا الموقف، ومقاصده.

ومن فوائد هذه الخلاصة أن المدح يجب أن يظل استثناء، وأن هذا الاستثناء محاط بعدد من الشروط والضوابط التي تحول بينه وبين أن يزيغ عن الضرورة التي أوجبته.

بقي أن نشير إلى أن الحديث النبوي يذكر المادح ومدحه والممدوح، وقد رأينا الموقف من المادح والمدح، وهذا أوان الحديث عن الممدوح………..

1- صحيح البخاري، 2/161، حديث رقم 2662، ك. الشهادات، ب. إذا زكى رجل رجلا كفاه.

2- شرح صحيح مسلم، 18/101، حديث رقم 3000/65، ك. الزهد، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

3- شرح صحيح مسلم، 18/101، حديث رقم 3000/66، ك. الزهد، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

4- شرح صحيح مسلم، 18/101، حديث رقم 3000/65، ك. الزهد، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

5- النهاية في غريب الحديث والأثر، 5/235، مادة +ويح؛.

6- مقاييس اللغة، 6/77، مادة +ويح؛.

7- لسان العرب، 11/737، مادة +ويل؛.

8- مسند أحمد، 13/196، حديث رقم 16845، علق عليه محققه حمزة أحمد الزين بقوله: إسناده صحيح.

9- شرح صحيح مسلم للنووي، 18/102.

10- شرح صحيح مسلم، 18/101، حديث رقم 3000/65، ك. الزهد، باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>