حـــــوار نـسـوي هـــادف


إن كل من يريد أن يتحدث عن أوضاع المرأة المغربية يجب عليه أن يحدد عدة منطلقات: تاريخية، وبيئية وعقدية، ليكون موضوعيا نزيها، معززا بالشواهد الواقعية القابلة للمناقشة وترداد القول بين المهتمين المطلعين.

فالمنطلق التاريخي يعني ـ عندنا ـ تحديد المرحلة الزمنية التي يختار الباحث أن يكتب أو يتحدث عن أوضاع المرأة المغربية خلالها.

- والمنطلق البيئي يعني التمييز بين بيئة البوادي والأرياف، وبين بيئة المدن الكبرى والصغرى، والمكانة الاجتماعية.

- والمنطلق العقدي يعني الحال العلمية، والقدرة الفكرية، والمرتبة الإيمانية.

ومن حيث المنطلق العقدي يمكن تصنيف المرأة المغربية ـ على الإجمال ـ إلى ثلاثة أصناف:

أ- العالمة بحقائق الإسلام، المتشبثة بمبادئه الملتزمة بأحكامه، المتحلية بآدابه.

ب-الجاهلة بالإسلام، المتذبذبة في اعتقادها، المترددة في مواقفها المضطربة قي سلوكها.

ج-المتنكرة للإسلام، الجاهلة بخصائصه ومميزاته التي ضاق عقلها – أو سُد – عن إدراك فضائله ومحاسنه.

وما لم تُستقص الحيثيات والصور والوجوه التي تشكوها المرأة المغربية فإن كل كلمة أو بحث أو مقال يبقى موسوما بالسطحية والجزئية، موصوما بالتحيز لفئة معينة موصوفة، وبإهمال فئات كثيرة، وبذلك لا يحظى بأية مصداقية علمية ولا واقعية، ولا يعالج الأوضاع من أصولها، بل يكثر فيه الهدر واللغو، ويلتبس فيه الحق بالباطل، والموضوعية بالانتهازية، ويخلط فيه التعقل بالتعصب، والتسيب بالانضباط.

هذه وجهة نظر قدمت بها لاستفتاء نسوي نوعي وحوار جدِّيّ، وصلني، وطُلب إليّ تحريره، واشتُرط عليّ أن أكون أمينا فلا أُحدِث تغييرا في المحتوى، فاستأذنت في التقديم له بما ذكرت، فأُذِن لي.

أ- استفتاء نسوي نوعي

 لقد أُجرِي استفتاء بين مجموعة من النساء بإحدى المدن المغربية الساحلية في قضيتين أساسيتين، صيغتا على شكل سؤالين هامين هما:

أ- هل أنت راضية عن وضعك الحالي؟ أو ترغبين في تغييره كلا أو بعضا؟

ب- بأي شيء تريدين تغييره: بنظام الشرع الإسلامي؟ أو بالقانون البشري؟

فكانت الإجابة عن السؤال الأول بالرغبة في التغيير بنسبة(95.50%) مع اشتراط التغيير إلى أحوال أكرم وأشرف، وشملت هذه النسبة المسلمات الملتزمات عن علم واقتناع، والمتذبذبات المتمسكات بالإسلام عن طريق الوراثة والتقليد، وكذلك المتنكرات للإسلام بصفة إجمالية.

وبهذه النسبة العالية الراغبة في التغيير، تميزت نسبة ضئيلة جدا من النساء المغربيات بتلك المدينة الراضيات بالواقع، المقتنعات بأوضاعهن كما هي، وهن يحرصن على استمرارها، ولا يفكرن في تغييرها ما دامت كذلك، وهذه النسبة القليلة تشمل الأميات وأشباه الأميات، وأكثرهن من الطبقة المحظوظة جاهاً ومالا وسلطة.

وكانت الإجابة عن الشق الأخير من السؤال الثاني بنسبة واحدة في ألف امرأة، اختارت التغيير عن طريق القانون البشري، واختار تسعمائة وتسع وتسعون من كل ألف التغيير عن طريق الشرع الإسلامي بشرط أن يفي بالأغراض ويحقق المقاصد.

ولكن لما سئلت تلك التي اختارت التغيير عن طريق القانون الوضعي عن موقفها، أجابت بكل بساطة بأنها لاتعرف عن الإسلام أنه يجدي في معالجة هذا الموضوع، وأن ما تسمعه وتقرؤه عن إمكانية القانون البشري في المعالجة أكثر مما تعرفه عن قدرة القانون السماوي في إصلاح الحياة البشرية. فقيل لها على سبيل الاستدراك:

إذا أجري معك حوار في إثبات كفاءة الشرع الإسلامي، وتَبيّن لك الخطأ في موقفك فهل تتشبثين به، أو تفضلين الاختيار الإسلامي؟ فأجابت على البديهة (أنا لست معتوهة حتى أتمسك بالخطأ،ولكنني أبحث عن أية وسيلة تعيد إليّ الاعتبار، فإذا استطاع الإسلام أن يحقق لي عزتي ومكانتي فأنا مسلمة أصلا)

تعليقي : (يؤخذ من هذا أن أصحاب القانون الشرعي لم يعرِّفوا المسلمين بحقائق التشريع الإسلامي على الوجه الذي يحافظ على مشاعرهم وأحاسيسهم الإيمانية وارتباطهم بالإسلام.

كما يؤخذ منه أن أصحاب الدعوة إلى القانون البشري نشطوا في نشره، وأحسنوا عرضه، وزينوا للناس مظاهره، وقربوا إليهم بعض ثماره وفوائده المحسوسة، فانجذبوا إليه، ورحبوا به، وأسلموا مقاليدهم، ولم يحتفظوا من الإسلام إلا بمظاهر زائفة ولافتات متآكلة، وكلمات تائهة).

وقد حاولت الإحصائية أن تحظى بامرأة واحدة ترفض النظام الإسلامي جملة وتفصيلا وعن اقتناع علمي، فلم  تحظ بها في منطقة يتجاوز عدد سكانها عشرين ألفا.

تعليقي: (بناء على ما ذكر، فإني أرى أن تُعذر المرأة المغربية الراغبة في تحسين أوضاعها بأية وسيلة، لأنها لم تعطَ حظها من فقه الإسلام وتربيته، فسُلطت عليها أضواء من القوانين البشرية، فبهرها شعاعها، والإنسان بطبعه ضعيف، ما لم يُقوَّ ويزود بوقايات وحمايات يقدِر بها على مواجهة حملات الإغراء والذوبان.

وإذا كانت هذه النسبة في ساكنات المدن الكبرى والصغرى فإن ساكنة البادية، رغم عنتها وبؤسها الذي لا يتصوره إلا ابن بيئتها، ولا يحس بآلامها إلا من كابد وعانى قسوة البادية وشدائدها، فإنها ما إن تُمَس في إيمانها حتى تغضب وتنفجر، وتهدر وترعد، فهي مؤمنة رغم أميتها، وهي كريمة رغم شظف عيشها، وهي موثرة رغم حرمانها، وهي مناضلة رغم وحدتها وإهمالها… هي مؤمنة مسلمة تحمد ربها على السراء، ولاتقول إلا خيراً إذا مسها الهم والضراء.

ذهبتُ لتعزية أم بضواحي فاس، توفي ولدها من جراء حادثة سيارة، فكان مما نطقت به صابرة محتسبة، ثابتة، رابطة الجأش، أن قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، أسأل الله تعالى أن يتقبله مني، ولا يحرمني أجره، وأن يجمعني معه في الجنة، وأن يبارك لي في إخوته) ثم أضافت: (علمت وتيقنت أن ولدي كُتب عليه الموت بهذه الكيفية عندما كان جنينا في بطني.)

وأشهد أنني اضطربت وأخذتني قشعريرة عند سماع هذه الكلمات من امرأة أعرف أنها لم تلج مدرسة ولا كُتاباً، ولا تعرف قراءة ولا كتابة، وأن عملها في الداخل شؤون البيت، وفي الخارج عمل الفلاحين. فقلت في نفسي: أنا أحرى بالتعزية من هذه المرأة! لأنني أفتقر إلى مثل هذا اليقين، الذي يثبت الله به عبده المومن عند المكاره، ويهون به عليه مصائب الدنيا.

ب- حوار نسوي هادف

وفي لقاء مع سيدات وأوانس: طالبات جامعيات، وزوجات وأمهات وربات بيوت وموظفات وعاملات… انعقد لقاؤهن لدراسة هذا الاستفتاء ومناقشته، فاخترن إحدى الباحثات في علم الاجتماع، وأسندن إليها تنظيم اللقاء وتأطيره وتسييره، ولما اكتمل الجمع وانتظم المجلس، أخذت المؤطرة تلقي سؤالا بعد سؤال، وتتيح الفرصة لمناقشة السؤال تلو الآخر، وهذه نماذج من تلك الأسئلة:

1- من هي المغربية التي ترغب في التحرر؟

فكادت الإجابات تتفق على أن النساء المغربيات كلهن يردن التحرر، لكن مع تحرز البعض وتحفظه من مفهوم التحرر، أي أن المرأة المغربية غالبا ما تتروى وتتأنى في الإجابة، حتى تتيقن من مضامين الألفاظ، وتتذوق معاني المصطلحات، وهذا يدل على التعقل والرزانة.

2- وما الذي تريد المرأة المغربية أن تتحرر منه؟

جاء الإجماع على أنها تريد التحرر من كل عنف وظلم وإهانة، ومن كل قيد يكبل فكرها ورأيها وحريتها العامة.

3- هل تريد المرأة المغربية أن تتحرر من كل قيد على الإطلاق؟ أو أنها وضعت حدوداً وضوابط تراعيها في مسيرتها نحو التحرر والانعتاق؟.

وكانت الإجابات توشك أن تحقق الإجماع على ضرورة مراعاة الضوابط والحدود، حتى لا ينقلب التحرر إلى التسيب والاعتداء على حريات الآخرين، وبذلك يتسلط القوي على الضعيف.

وتتكرر هذه الفوضى على مدى العصور وفي مختلف البلدان، كلما أهمل الراغبون في التحرر نظام التحرر الحق وضوابطه وحدوده، وكلما تجاوزوها متهافتين في حمّى الجنون والفوضى.

4-وما هي الجهة التي يمكن أن يوثق بها ويُطمأن إليها في ترتيب الضوابط المؤطرة للمسيرة التحريرية عند المرأة المغربية والرجل المغربي على السواء؟

اتحدت مضامين إجابات المثقفات -ولو اختلفت الألفاظ- في الأوصاف، لا على الجهات، وأكدن أنهن لن يخترن لهذه المهمة الخطيرة إلا من توفر فيه العلم الدقيق الشامل، والتجرد من المصلحة الشخصية، والأنانية المتحكمة، وعُرِف بالنزاهة في المقاصد، حتى لا يستعبَدن لأي طرف ولا يُكرهن على اتباع أية جبهة!

5-هل تفرِّق المرأة المغربية بين الشروط والضوابط التي من شأنها أن تؤطر وتنظم وتوفر الكرامة والسيادة، وتوجهَ الإنسان إلى جهة واحدة، وبين الضوابط والحدود التي تختلف في منشإها وأهدافها، وبذلك تسوق الإنسان إلى وجوه مختلفة من الخضوع والاستسلام لجهات متعددة؟

أجاب بعض النساء: إن المرأة لا تستطيع أن تدرك هذه الفوارق إلا إذا كانت حرة في تفكيرها، وإبداء رأيها، وعلى بينة بماضي الأمة، عالمة بحاضرها مهتمة بمستقبلها، متيقظة لما يُعرَض عليها.

6- وما هي – في نظركن الأسباب التي نشأ عنها وجود أشكال وصور من القهر والجور الذي تعانيه المرأة المغربية؟

جاءت الإجابات متكاملة: يعود بعضها إلى العادات والأعراف والتقاليد، وبعضها إلى سوء التربية وبعضها إلى فساد الطباع وتعمد الظلم، وبعضها إلى غياب القانون الزاجر، وبعضها إلى غياب الشرع الحكيم.

7- ولما قيل لهن: أيهما يغني عن الآخر: الشرع يغني عن القانون، أم القانون يغني عن الشرع؟

أجابت المثقفات: إن الشرع الحكيم يغني عن القانون لو كان مطبقا.

8- ثم قيل لهن: إذن أنتن تعلمن أن ما طُبق من القانون لم يحقق للنساء ما يردنه من الحرية والكرامة، فهل تعلمن لماذا لم يُطبَّق الشرع الحكيم؟

هل لعجز الشرع؟ أو لمنعه من التطبيق؟ أو لقلة الراغبين فيه؟

تنوعت الإجابات، وكان أغلبها ينص على أن الشرع الحكيم يُمنع ويُحال بينه وبين تطبيقه!

9- فسُئلن: ولماذا أتيح للقانون أن يُعمل به، مع اختلاف مصادره، وعجزه وقصوره؟

ومع كون السؤال حرجاً، فإن بعضهن أجاب على البديهة: لأن دولتنا دولة القانون وليست دولة الشريعة الإسلامية!

وبينما المستجوب يدوِّن هذا الجواب إذا بامرأة تهمس لمن حولها قائلة: كان يجب على المرأة المغربية أن تعرف من ظلمها قبل أن تهُبّ إلى المعركة.

فقالت لها إحداهن: أنا متيقنة أن البشر هو الذي ظلمنا، رجالا ونساء، فلا شرع الله يطبق، ولا قانون ينفذ، كما عند الدول الغربية.

واتسعت دائرة الحوار بين النساء، وصار المحاور يسجل الآراء والردود كما يسمعها دون نقاش.

قالت إحدى الأمهات: أنا لا أفهم ما ذا تريد هذه المرأة الصارخة؟ هل تريد تحرير المغربية من الحيف والاستبداد؟ أو أنها تريد تحررها من الإسلام كأنه هو الذي ظلمها وأهانها!

- وقالت إحدى الموظفات: أنا أخشى من  الخلط المقصود بين رغبة المرأة المغربية في التحرر من العنف والاضطهاد، وبين الرغبة الخفية -عند البعض- في إبعاد الإسلام عنها، وإبعادها عنه!

وقالت إحدى النساء متحسرة: إننا لعلى يقين أن كثيرا من الذين يتهمون الإسلام يعلمون حقاً وصدقاً أن الظلم الواقع على المرأة والرجل، ليس مصدره الإسلام الحق، ولكنهم لحقدهم على الإسلام يلصقون به وبأتباعه كل باطل، بل منهم من يصطنع الظلم ويتهم به الإسلام والمسلمين، وذلك لحاجات في نفوسهم وفي نفوس ساداتهم.

إنهم اتخذوا من المرأة -لكونها انفعالية وعاطفية وحماسية أكثر من الرجل- سلاحا لضرب الإسلام والوطن المسلم والمرأة المسلمة نفسها.

إنهم يحاربون الإسلام بأقنعة تستر حقائقهم، وتخفي مكائدهم ولكنهم ينكشفون في لحن القول!

ثم أنهت كلمتها الهادئة المتوجعة قائلة:

هل تريد المرأة العاقلة حقوقاً غير التي حددها لها ربها سبحانه؟ أم إن هؤلاء جعلوا المرأة آلة في أيديهم يوقدون بها نار الفتنة في هذا الوطن، ويحركون بها الجمر ليلتهب كلما أوشك أن يخبو أو ينطفئ.

ألا فلييأسوا وليخسأوا إن لم يتوبوا.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>