“القراءة” : ذلك الركن الـمُضَيع(1)¨


تعد القراءة نافذة للإنسان على الحقول العلمية والمعرفية سواء منها الشرعية أو الإنسانية أو التكنولوجية. والأمة التي تقرأ هي أمة نافعة لأبنائها ولبني البشر كافة، وهي التي تملك زمام المبادرة في الإبداع على اختلاف أشكاله. بينما الأمة التي لا تقرأ بعيدة عن أن تنفع نفسها بلْهَ غيرها، بل إنها تزيد الطين بلّة، حيث تكون عالة على غيرها بإحداث مشاكل نتيجة الجهل وما يسببه من فقر وظلم وتأخر عن الركب العلمي والحضاري. ولذلك كان أول الوحي كلمة “اِقرأ”، تلك الكلمة التي كانت الأساس الأول لبناء الحضارة الإسلامية.

وليس هناك أمة لها يد في إنشاء حضارة ما، أو الإسهام فيها، إلا والقراءة أساس  نهضتها وعمود بنيانها، كذلك كانت حضارتنا منذ فجر الإسلام، وكذلك كانت الحضارات القديمة، وكذلك هي الحضارات الحديثة.

واقـع القـراءة الآن

إن الذي يتأمل واقع المجتمعات العربية والإسلامية، ويتابع ما صدر من تقارير عن هيئات دولية، عن واقع القراءة وتأثيراتها يدرك بشكل واضح الحقيقة المرة للقراءة في كافة البلدان العربية، وكثير من الدول الإسلامية. فقلة عدد المكتبات، وتحول العديد منها إلى مطاعم، وتضاؤل أعداد دور النشر، وضعف توزيع الكتاب، ونشر كتب لا علاقة لها بالعلوم والمعارف، كلها مؤشرات خطيرة تدل على الإهمال الكبير للقراءة في زماننا من قِبَل أبناء أمة “اقرأ”. ويمكن إدراك ذلك بنظرة بسيطة إلى الجداول التالية التي نشرت أكثر من مرة وفي أكثر من مكان:

الجدول 1:

الجدول 2:

الجدول 3:

بـدون تـعـلـيـق

نلاحظ من خلال هذه الجداول أن الاهتمام بالقراءة في البلاد العربية، ومثلها عدد من البلدان الإسلامية أيضا، أقل بكثير مما هو موجود في الدول الأخرى، وخاصة الغربية منها. وهذا يعود في جانب منه إلى غلبة الأمية على الشعوب العربية والإسلامية مقارنة مع الدول الأخرى، إذ تشير تقارير الهيئات الدولية إلى أن أعلى نسبة للأمية توجد في الدول العربية، كما يعود في جانب آخر -وهو الأساسي في تقديري- إلى أن الاهتمام بالقراءة يأتي في المرتبة الأخيرة بالنسبة للمواطن العربي. وهذا يدل بشكل واضح على أن انتكاسة كبرى قد حدثت بالنسبة للمسلم من حيث ما يتعلق بالقراءة والكتابة، مقارنة مع ماضيه المشرق، أو مع ما هو موجود في الدول الغربية. وتزداد الانتكاسة هولا والخرق اتساعا حينما نجد أن الأمر لا يتعلق بالكتاب العادي ولكن أيضا بما يتعلق بالقراءة الرقمية بصورة عامة..

ذلك أن القراءة الرقمية قد حلت العديد من مشاكل القراءة في العصر  الحاضر، بما فيها المشاكل المادية التي يتذرع بها الكثيرون للامتناع عن القراءة؛ فجل الشباب يحملون أجهزة إلكترونية لا يحملها آباؤهم، وربما حتى العديد من أساتذة الجامعات، وهي أجهزة تساعد على القراءة أكثر من الكتب الورقية، من حيث خفة الحمل، والمساعدة على التخزين واسترجاع المعلومات، والبحث عنها بشكل دقيق وسريع، ولكن مع ذلك لا تستعمل هذه الأجهزة في الجانب العلمي أو القرائي  إلا في القليل النادر. والمتتبع لمسار الأحداث يجد أنها تستعمل في أشياء أخرى، تعود بالندم على الحياة الخاصة للشباب من حيث ضعف التكوين وعدم القدرة على الإنتاج، كما تعود بالخسران على المستقبل العام للأمة، كفقدان  الهوية وضياع الموروث التاريخي الأصيل وضمور الأمة عن إنتاج المعرفة والوصول إلى القدرات العالية في التصنيع والإنتاج وإيجاد الأعلام الفاعلين في شتى مجالات الحياة.  وقد يؤدي ذلك إلى الأمية المقنعة.

إننا نحن أبناء هذه الأمة بفعلنا هذا نسير سيرا شاذا مقارنة مع ما هو موجود حاليا في العالم المتقدم، عند الغربيين وحتى عند الكثير من الأسيويين، حيث نجد الاهتمام الكبير بالقراءة بشتى أنواعها، وتشجيع الفرد على اقتناء الكتب والمجلات  المختلفة بطرق إشهارية متنوعة. ومن ثَم نجد القارئ هناك يوظف الكثير من وقته للقراءة بما في ذلك أوقات السفر، بل وحتى الأوقات والحالات التي لا تساعد على القراءة أصلا، كالوقوف عند الإشارات الحمراء من قبل الراجلين. كما أننا ونحن أبناء أمة “اقرأ” لا نأتسي بأسلافنا الذين طبقوا مبدأ “اقرأ” في حياتهم الفردية والجماعية فبنوا بذلك حضارة فريدة في التاريخ.

كنـا أمة اقـرأ ثـم أصبحـنا أمـة لا تقـرأ

اِقـرأ” : منهج حيـــاة

قال تعالى: {اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الانْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اِقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم}.

-اِقْرَأْ: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وخطاب لأمته على امتداد الأزمنة والعصور واتساع الأمكنة والدهور .

-اِقْرَأْ: فعل أمر حُذف مفعوله، هكذا قال أكثر من واحد من المفسرين، مثله مثل فعل خلق، من قوله تعالى: {الذي خلق}.

قال الزمخشري عن مفعول خلق: إما أن لا يُقدّر له مفعول وأن يراد أنه تعالى الذي حصل منه الخلق واستأثر به  لا خالق سواه، وإما أن يقدر ويراد خلق كل شيء…

ويمكن أن نقول قياسا على ذلك: إن تقدير المفعول في “اِقرأ” يمكن أن يقدر بكتاب الله تعالى وما يترتب عنه من معارف؛ أي اقرأ كتاب الله تعالى هذا المنزل وتدبر ما فيه، وإما أن يكون التقدير اقرأ أي مقروء، لكن بشرط واحد وأساسي، وفي كلتا الحالتين، أن تكون القراءة باسم الله الخالق {الَّذِي خَلَقَ} الأكرم {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}.

والباء، في {بِاسْمِ رَبِّكَ} قيل إنها للاستفتاح، أي (مستفتحاً باسم ربك)، أو الاستعانة، أي (مستعيناً باسم ربك)، أو للتبرك، أي (متبركا باسم ربك)، أو الملابسة، أي “مُلْتَبِساً بِاسْمِهِ تَعَالَى؛ أَيْ: مُبْتَدِئاً بِهِ؛ لِتَتَحَقَّقَ مُقَارَنَتُهُ لِجَمِيعِ أَجْزَاءِ المَقْرُوءِ”. وقد تكون للمصاحبة، ويكون المجرور في موضع الحال من ضمير (اقرأ). أي: اقرأ ما سيوحى إليك مصاحباً اسم ربك، فالمصاحبة مصاحبة الفهم والملاحظة لجلاله، ويكون هذا إثباتاً لوحدانية الله بالإلهية، وإبطالاً للنداء باسم غيره، مهما كان هذا الغير.

كيف فـهم القـدماء هـذه الآيـات؟

قال ابن كثير: فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول  نعمة أنعم الله بها عليهم. وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم، فشرفه وكرمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة. والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان: ذهني ولفظي ورسمي، والرسمي يستلزمهما من غير عكس، فلهذا قال: {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} وفي الأثر: قيدوا العلم بالكتابة. وفيه أيضا: من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يكن يعلم.

وقال الزمخشري: فدلّ على كمال كرمه بأنه علم عباده ما  لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلاّ هو، وما دوّنت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلاّ بالكتابة؛ ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا؛ ولو لم يكن على دقيق حكمة الله ولطيف تدبيره دليل إلاّ أمر القلم والخط، لكفى به ..

وقال ابن الجوزي في زاد المسير: {الذي علم بالقلم} أي: علم الإنسان الكتابة بالقلم {علم الإنسان ما لم يعلم} من الخط، والصنائع.

ألفـاظ القـراءة فـي القـرآن الكـريم

إن ورود لفظة “اقرأ” في بداية الوحي لم تكن إلا بداية، لأن مفهوم القراءة تكرر في القرآن الكريم بألفاظ شتى، من نحو: “تلا”، و”رتل”، و”كتب”، و”قلم”، و”مداد”، و”قرطاس” و”صحيفة”، ليصل عدد الألفاظ ذات الصلة بالقراءة، حوالي: 447 لفظا، يأتي في مقدمها لفظ كتاب الذي ورد ذكره 244 مرة، لتكون نسبة هذه الألفاظ بالنظر إلى مجموع ألفاظ القرآن الكريم حوالي” 0,60%. وإذا كان العلم من نتاج القراءة ومقرونا بها، كما هو واضح في بداية سورة العلق، وأضفنا إلى هذه الألفاظِ السابقة الألفاظَ الدالة على العلم، والتي يبلغ عددها 779 لفظا، فإن العدد العام لهذه الألفاظ يبلغ حوالي: 1226  لفظة، موزعة على معظم سور القرآن الكريم. وبذلك ترتفع نسبة ورود هذه الألفاظ إلى حوالي 1,55% من مجموع ألفاظ القرآن الكريم. وهذا الرقم بنسبته العامة يحمل دلالة قوية من حيث قيمة القراءة والعلم وأهميتهما في المنظور القرآني، مع العلم أن المجتمع العربي آنذاك كانت تسوده الأمية بشكل كبير.

ولقد وعى السلف الصالح من هذه الأمة دلالة “اقرأ” حق الوعي، فأسسوا مجتمعا قارئا، وبنوا حضارة قوامها القراءة باسم الله، وهو ما سنرى بعض جوانبه في العدد المقبل إن شاء الله.

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>