يقول تعالى: {قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا}(الكهف : 104).
إن الفوائد التربوية لحفظ القرآن الكريم وتحفيظه، فوائد لا متناهية بلا تناهي كلمات الله عز وجل، لأن آي القرآن الكريم أشمل من أن تكون لها بضع فوائد، إذ هي في حقيقتها دلائل تربوية.. تقترن فيها الغاية بالوسيلة ويطرد العلم والعمل ويدور مقتضى التعبد على منهج التربية، بما تجف الأقلام دون استقصائه وتعجز العقول عن الإحاطة به، غير أن جماع ذلك كله قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق :1).
إنه أمر بالقراءة -وأشمل مجالاتها ومتعلقاتها قراءة القرآن الكريم- لتحقيق الغاية من الخلق ألا وهي التعبد: {وماخلقت الجن والانس إلا ليعبدون}(الذاريات : 56).. واستعمال كلمة “ربك”… في الآية القرآنية الكريمة، له دلالة تربوية قاطعة؛ فلم يقل خالقك أو إلهك للتنبيه على أن الغاية من قراءة القرآن الكريم وحفظه،تمثل المنهج القرآني في رعاية شؤون العباد والقيام على صلاح أمورهم والتشبع بفوائده التربوية..
خصائص القرآن الكريم
إن منطق الاشتقاق العلمي للمفاهيم، يقتضي منا الوقوف على خصائص هذا الكتاب العظيم، لتتجلى لنا بعض معالم منهج تحقيق الفوائد الجمة وجني الثمار الوارفة من تناوله بالحفظ والتحفيظ. وهي في الحقيقة أشمل من أن تحصى، ولكنها في جملتها مندرجة تحت الخصائص التالية:
1- القرآن الكريم نور: يقول تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}(المائدة : 18-17). فالقرآن الكريم للإنسان بمنزلة الشمس أو الضوء للبصر.”فكما أن البصر لايبصر الأشياء إذا انفرد في الظلمة، كذلك العقل لا يبصر الحقائق إذا انفرد في البحث عنها. ولذلك سمى الله عز وجل آيات الوحي بصائر”(1).
إن نور القرآن الكريم نور مستمد من نور الله تعالى: {الله نور السماوات والارض}(النور : 35)، متجل في نوارانية الرسول صلى الله عليه وسلم رسالة ومنهجا وخلقا وسلوكا {يأيها النبيء انا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا}(الأحزاب : 54) وهو نور ثابت مستمر في الزمان والمكان {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم وياب الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}(التوبة : 32) مطلق في أبعاده شامل لما تستنير به الظلمات جميعها على تعددها واختلافها، فمن تلمس نورا بغير نور القرآن كمن يبحث عن الشيء الخفي في الظلمة، فلا هو بمدركه ولا هو بمبصر نفسه أصلا. {ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور}(النور : 40) فليس من مسلك نجاة واستبصار للعبد إلا مسلك الاهتداء ببصائر القرآن الكريم المجلية لنوره.
2- القرآن الكريم روح: يقول تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا}( الشورى : 52) فالقرآن الكريم ”روح تفعل في الكائن المخاطب جميع ما تفعل الروح في الجسد، وبه ينتقل الإنسان فعلا من الموت إلى الحياة كما ينتقل بالروح من العدم إلى الوجود… إذ الإيمان ولادة جديدة للإنسان، فبهذا القرآن يصير سميعا بصيرا مفكرا معبرا”(2).
إن حقيقة الإحياء الروحي الذي يبعثه القرآن الكريم في الإنسان المهتدي بنوره، هي نفس ما استشعر المفكر الأمريكي غيابه لديه وحاجته المطلقة إليه، فعبر قائلا: “يجب أن نؤمن بالغيب العظيم وصلاتنا به، يجب أن نفتح قلوبنا للمستقبل البعيد، مستقبل ما بعد الموت، فهذا الكون لا يجري دون هدف أو معنى فنحن بشر متميزون بين المخلوقات لكننا لا نفهم سر وجودنا”(3) .. فعالم القرآن النوراني هو وحده الذي يمنح المدركات أبعادها الربانية والحقائق والموجودات معانيها الحقة، لتسري روح الحياة الربانية المتأصلة في روح الفطرة النقية ابتداء..
3- القرآن الكريم هدى: فهو مشتمل -لزاما لما سبق- لمختلف أنواع الهدي الرباني؛ تفصيليّه ومقصديّه وكليّه؛ بما يقوم به سلوك الإنسان ويهتدي في جميع حركاته وسكناته {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 10).
4- القرآن الكريم ذكر: إنه كتاب ذكر ومنهاج تذكر وتذكير للفطرة الربانية السليمة والطبيعة الإيمانية الأصيلة التي خلق الله عزوجل الإنسان عليها. {وإذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى}(الأعراف :172) فالإيمان بكلام الله تعالى ومحبته من مقتضيات الإيمان بالله عزو جل ومحبته.. والمؤمن يتفاعل مع كتاب الله تعالى بفطرته قبل أن يفهمه بعقله ويستبصره بقلبه وبهذا المعنى يمكن أن نفهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم : >إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا<(4). فالقرآن الكريم معرفة ربانية شرط الدخول فيه والفوز بحظ منها، الإقبال على الله تعالى المحقق للاستجابة لنداء الفطرة السليمة المتأصلة في النفس الإنسانية، فلا عجب إذن أن يقبل على هذا الكتاب العظيم ويتنافس على أوفر الحظ منه صغير وكبير وعربي وأعجمي وأمي ومتعلم ومبصر وأعمى.. كل أولئك تفاوتت قدراتهم الإدراكية والحسية، ولكن التقت قلوبهم جميعا على الإنصات لكلام الله تعالى بأذن الفطرة السليمة النابضة بين جنباتهم، فوجدوا في الكتاب العزيز ما يلم شعت القلب ويهدي حيرة العقل ويسد فاقة النفس….
من أهداف التربية القرآنية ومقاصدها
إن استقراء خصائص القرآن الكريم والتدبر في تجلياتها، يفضي إلى التسليم المطلق بأن الخطاب الرباني خطاب تربوي يهدف إلى تحقيق مقاهد وأهداف يمكن إيجازها فيما يلي:
- إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد الله اضطراراً. – خضوع النفس للأحكام الربانية والسنن الإلهية في مختلف أحوالها.
- الترفع عن الأخذ بأسباب البقاء إلى أسباب الرقي.
- تحلية سلوك الإنسان المسلم عقليا ووجدانيا وعمليا، تحقيق كمال الطاعة لكمال المحبة لله تعالى.
-تحقق صفة الخيرية في الأمة، إخراج الأمة الشاهدة.
> الأبعاد التعبدية لحفظ القرآن الكريم وتحفيظه: بناء على ما سبق ذكره، فإن من مداخل تمثل مبادئ التربية القرآنية وتحقيق أهدافها الخاصة والعامة، الذاتية والاجتماعية والكونية: حفظ كتاب الله تعالى وتحفيظه قولا وعملا، حفظا يحقق به العبد وفيه، الأبعاد الثلاثة الناظمة لمنهج ومستويات تعبد الله تعالى في الشريعة الإسلامية. وهي البعد الشعائري والبعد الاجتماعي والبعد الكوني. أما البعد الشعائري، فمثاله قول الرسول صلى الله عليه وسلم : >إن بكل حرف عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة< الحديث . فترتيل كتاب الله تعالى وحفظ آياته وسوره وفهم معانيه مما يتعبد به المؤمن خالقه وينال به الأجر والثواب وهو مرتق بذلك، متسلق مدارج الخيرية، نائل وسام الأهلية بقدرما تحقق له الإتقان واكتمل لديه مبدأ الإخلاص. فقد قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : >خيركم من تعلم القرآن وعلمه<(5) وقال أيضا: >إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين<(6). وهذا البعد الشعائري مقتض من حيث جوهره وامتداده، دخول المتعاطي لحفظ كتاب الله تعالى أو تحفيظه، في البعد الاجتماعي لذلك، بما يحقق له الترقي في مدارج الطاعة لله تعالى.. عن طريق تلقف معانيه بمنهج “التلقي” أي الامتثال لأحكامه والتمثل لأخلاقه وقيمه في التعامل مع النفس والغير والكون . يقول تعالى: {فلا وربك لايومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} وبقدرما ينتهج المشتغل بكتاب الله تعالى منهج التلقي في التعامل مع آياته وسوره، بقدرما يتحقق له الارتقاء والترقي في مدارج اليقين، لأن البعد الاجتماعي في القرآن الكريم مؤسس للبعد الكوني فيه،حيث منهج التفكر والتدبر مفض إلى شهود سنن الله تعالى في الوجود وقوانينه في الكون والحياة شهودا مبصرا لحقيقة الاستخلاف في الكون مستبصرا بالمنهج الرباني، مفضيا إلى تخريج الإنسان القرآني، الذي تحقق وصفه واجتمعت خصائصه في المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قالت عنه عائشة رضي الله عنها: >كان قرآنا يمشي< عليه أزكى الصلاة والتسليم.
فــوائـد تــربـويـة لحفـظ القـرآن الكـرـيم وتحفيظه
وملاك القول كله، أن الإقبال على القرآن الكريم بمنهج الحفظ والترتيل فالتلقي فالتفكر، سيرورة منهجية أساس لنيل النصيب الأكبر والحظ الأوفر من الفوائد التربوية الجالبة للهداية القرآنية الربانية.
وهي فوائد يمكن تصنيفها من حيث علاقتها بالعبد المؤمن ومستويات تفاعلها مع شخصيته وتنزلها على سلوكه كما يلي:
< فوائد إيمانية نورانية: فحفظ كتاب الله تعالى مسلك هذا النور، وحافظه حامل له ومحفظه رسول به والمبصر لهذا النور متفاعل معه والمستبصر به ناقل له.
< فوائد أخلاقية: جماعها التحلي بأخلاق القرآن الكريم والتخلي القائم على مبدإ الاقتداء في القول والعمل.
< فوائد نفسية: تتجلى في مجاهدة النفس وتزكيتها بأنوار القرآن حتى تبلغ مرتبة اليقين والاطمئنان”ألا بذكر الله تطمئن القلوب”
< فوائد ذهنية وحسية: مثالها تنمية ملكات الحفظ والفهم والاستيعاب والربط والمناسبة والمقارنة والتوظيف..
< فوائد منهجية: فالاشتغال بحفظ كتاب الله أو تحفيظه ينمي في النفس منهج الالتزام والمداومة والإتقان والانضباط والعزم والحزم وتقدير قيمة الوقت…
< فوائد اجتماعية : تتجلى في تحقيق التمثل للقرآن الكريم والعمل على فشو ذلك بين سائر فئات المجتمع وطبقاته حتى تصير ثقافة المجتمع ثقافة قرآنية والأمة الإسلامية أمة قرآنية.
< فوائد امتدادية: تتمثل في تحقيق الشهادة والشهود اللذان هما مناط خيرية هذه الأمة ومقتضى وسطيتها {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}.
ذة. وئام النجاري
———-
(ü) محاضرة ألقيت في المتلقى الجهوي الأول للحافظات بالمجلس العلمي المحلي لفاس المنعقد يوم الأحد 9 صفر 1434هـ الموافق 23 دجنبر 2012م.
1- د ماجد عرسان الكيلاني أهداف التربية الإسلامية مؤسسة الريان ص 252
2- د الشاهد البوشيخي شروط الانتفاع بالقرآن الكريم -مكتبات هادفة- السلسلة القرآنية(3) ص17-18
3- د ماجد عرسان الكيلاني مرجع سابق ص 274
4- رواه ابن حبان في صحيحه وغيره.
5- رواه البخاري كتاب فضائل القرآن 5027
6- رواه مسلم كتاب صلاة المسلم وقصرها 817