شرح الأربعين الأدبية(14) – في بغض الثرثرة والتشدق والتفيهق(2)


روى الترمذي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: >إن مِن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أَحاسِنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون. قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون<(1).

تنبيه : تناول الكاتب في الحلقة الأولى المستوى الدلالي لألفاظ الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون التي وردت في متن الحديث مبينا شروط نوال محبة رسول الله والقرب منه ، وموانع ذلك كما وردت في الحديث ، وفي هذه الحلقة يواصل استخلاص جملة من المستفادات في أدب المجالس وعن خطورة اللسان، ومسؤولية الكلمة. لما كان اللفظ الأول (الثرثارون) والثاني (المتشدقون) خاصين بالكلام، فإن ذلك يجعل التكبر المفسر به لفظ (المتفيهقون) في الحديث النبوي لا يخرج عن هذا السياق، فلذلك كان من صفات هؤلاء المبغوضين الأباعد أنهم يكثرون الكلام، ويصيحون، ويرددون، ويخلطون، ويتفاصحون، ويتنطعون، وهي كلها صفات دالة على حالة نفسية لديهم مردها إلى رغبة في التعالي على الناس، والظهور بمظهر من يعرف كل شيء، ويتحدث في كل شيء، ويمتلك رصيدا معرفيا، وقدرة على الكلام، وطول نفس… وبناء على ما سبق يمكن أن نفهم الحديث في ترتيب صفاته الثلاث في اتجاهين: أولهما أن ثرثرتهم موقعة في تشدقهم، وتفيهقهم. والآخر أنهم لتكبرهم يثرثرون ويتشدقون، وهذا أقرب وأكثر وجاهة، وهو يجعلنا نفهم أن الصفتين: الأولى والثانية إنما سيقتا لخدمة الثالثة، فهي الأصل، إذ التكبر هو الذي قاد إلى الثرثرة والتشدق. بقي الآن أن نربط بين الصفات الثلاث وباقي الحديث النبوي الذي بني عليه الباب: وأول طريق نحو ذلك أن نلاحظ أن جل الأبواب التي سبقت والأحاديث التي تناولناها فيها كان مدارها على خطورة اللسان، ومسؤولية الكلمة، وأنه لذلك كان الإيجاز -بل والعي كما رأينا في الحديث السابق- ممدوحا. ثم إن الحديث يحدد صفات مَن يحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يبغضهم، ومَن مجلسهم أقرب منه، ومَن مجلسهم أبعد منه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب القصد في القول، ويحض على إمساك اللسان، وينبه إلى خطورة الكلمة، فقد بنى محبته على من امتثل، هذه واحدة.

والثانية أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدث عن المحبة والبغض في سياق الحديث عن مجالس يوم القيامة، والمجالس أماكن لتبادل الحديث، وهي تطيب عندما يكون المتحدثون مراعين للجالسين، فإذا كان أحد الجالسين -ولا سيما إن كان في المركز أو قريبا منه- مهذارا، متظاهرا، متكبرا، فسدتْ لذةُ الجلوس، وفقَد الجالسون طعْم المجلس. والثالثة أن الحديث يحتمل أمرين بخصوص من اتصف بالصفات المبغوضة: أحدهما أنه بعيد في المجلس، فهو منه، ولكنه محروم من لذة القرب من المركز، والآخر أنه بعيد عن المجلس، بمعنى أنه لا يشارك أهله الجلوس فيه، وهذا المحروم حقا. والرابعة أن المجلس المتحدث عنه زمنُه يوم القيامة، ومعلوم أن الجنة لا تنغيص فيها ولا إذاية، فلا خوف إذا من المجالسين، ومن ثم يُفهم أن تلك الصفات المذمومة إنما ذكرت هنا في الدنيا ليتزود الناس ويستعدوا لمجالس يوم القيامة كما يستعدون لهذا اليوم، فالأمر هكذا: على الناس أن يتزودوا في الدنيا للنجاة من النار ودخول الجنة، ثم ينبغي أن لا يكون همهم مجرد دخولها، إذ الجنة طبقات، فمن ثم لا بد من رفع درجة إيقاع العمل، والزيادة في الإنتاج، لتحسين الرتبة في الجنة، وتحقيق أكبر قدر من الامتيازات. والسادسة كون مجالس الجنة يوم القيامة لا يستحقها إلا من توفرت فيه شروط، يفيد أن على الناس أن يتدربوا على تلك المجالس الآن، وأنهم ينبغي أن يخوضوا دورات تكوينية والتخرج منها بنجاح للحصول على شهادة أهلية المحبة والقرب والمجالسة. إن الحديث النبوي ينبهنا إلى أن الذين صَنْعَتهم الكلام، وحياتهم كلام في كلام، يجب أن يراجعوا حياتهم؛ لأن الكلمة مسؤولية، ولأن اللسان يكب الناس في النار، فإن لم يصل بهم إلى هذه الدرجة فأقل ما يفعله بهم أن يَحْرِمهم من لذة القرب من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأخيرا فإنه لا يفهم من الحديث أن يَتجنب الناسُ المجالس، أو من آداب المجالس أن يَلزم الناس الصمت؛ بل يُفهم منه أن يجالس الناسُ الناسَ، وأن تُعقَد المجالسُ، ولكن على أساس أن لا تكون للثرثرة والتشدق والتفيهق؛ فإن عُقِدت لما يُفيد، وثرثر أو تشدق أو تفيهق أحد فيها فهو المبغوض المبْعَد، وهو المحروم في الدنيا والآخرة.
د. الحسين زروق
—–
1 – صحيح سنن الترمذي، 2/384-385، حديث رقم 2018، كتاب البر، باب ما جاء في معالي الأخلاق. قال الترمذي معلقا عليه: “وفي الباب عن أبي هريرة، وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى بعضهم هذا الحديث عن المبارك بن فضالة عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه عن عبد ربه بن سعيد. وهذا أصح…”. وصححه الألباني.
2- صحيح سنن الترمذي، 2/385. 3- مقاييس اللغة، 1/367-368، مادة ثر.
4- لسان العرب، 4/102، مادة ثر.
5- 6- 7- 8- م.س.
9- مقاييس اللغة، 3/255، مادة شدق.
10- لسان العرب، 10/173، مادة شدق.
11- م.س.
12- النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/453، مادة شدق.
13- م.س.
14- أساس البلاغة، ص: 324، مادة شدق.
15- النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/453، مادة شدق.
16- مقاييس اللغة، 4/456، مادة فهق.
17- لسان العرب، 10/314، مادة فهق.
18- النهاية في غريب الحديث والأثر، 3/453، مادة فهق.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>