روى الإمام أحمد “عن معبد الجهني قال: سمعت معاوية -وكان قليل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قلما خَطب إلا ذَكَر هذا الحديثَ في خطبته- سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ هذا المالَ حُلْوٌ خَضِرٌ، فمَنْ أَخَذَهُ بحقِّه، بارَكَ اللهُ عز وجل له فيه، ومَن يُرِد الله به خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ، وإياكُمْ والمَدْح فإنَّه الذَّبْح))(1).
مدار الحديث على ثلاثة أمور: المال، والفقه، والمدح، والأمر الثالث محلُّ الشاهد عندنا.
أما الأمر الأول فمفاده أن للمال خاصيتين مغريتين مثيرتين هما: الحلاوة والخضرة، والأولى خاصة بالذوق، والثانية خاصة بالنظر، فقد جمع المال في الإغراء بين مدخلين خطيرين، ومن ثم كان التوجيه النبوي إلى أن البركة تحصل عند أخذ المال بحقه، ومنه يفهم أن من الناس من يأخذه بغير حقه، وأنهم يُحرمون البركة لهذه العلة، وهذا الفهم يجعلنا نخلص إلى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أخذ المال بغير حقه، ومنه يلاحظ وجه المناسبة الأول بين الحديث عن المال والحديث عن المدح.
وأما الأمر الثاني فمع أنه كذلك ورد بصيغة الخبر ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) إلا أنه كذلك يتضمن توجيها لنا إلى أن نتفقه في الدين)) لأن الخير مرتبط به، فهذا التفقه هو الخير الذي يريده الله تعالى لنا، ومنه يفهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ينهانا عن إهمال التفقه في الدين، أو أن يصرفنا التفقه في غيره من أمور الدنيا عن التفقه فيه، وها هنا يظهر وجه المناسبة بين الحديث عن التفقه في الدين والمدح.
ومن الفقرتين السابقتين يظهر وجه المناسبة في الحديث عن المال والتفقه في الدين، وهو أن هذا المال لما كان حلوا خضرا يغري الأذواق والأبصار كان التفقه في الدين العاصمَ من الوقوع في فتنته.
وأما محل الشاهد في حديث الباب ((وإياكم والمدح فإنه الذبح)) ففيه ثلاثة أمور: حديث عن المدح، وتحذير منه، وربط له بالذبح، ومنه تظهر الملاحظة الأولى، وهي أن التحذير مِن المدْح معللٌ بكونه ذَبحا.
والملاحظة الثانية هي أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل معنيين:
أولهما تحذيرنا مِن أنْ نَمْدح غيرَنا.
والآخَر تحذيرنا من مَدْح غيرِنا لنا.
وكلا التحذيرين مرادٌ، ومنه يُفهم أن الذَّبْح كامنٌ فيما نَمْدَح أو نُمْدَح به.
والملاحظة الثالثة هي أن المدْحَ نفسَه عام، وهو أيضا يحتمل معنيين:
أولهما أن يكون في المدْح ذبْح للمادح.
والآخر أن يكون فيه ذبْح للممدوح.
وكلا المعنيين ممكن أيضا، ومنه يفهم أن الذَّبْح كائن لا محالة، وأنه يلحق المادح والممدوح معا.
ومادة (مدح) ((أصل صحيح يدل على وصفِ محاسنَ بكلامٍ جميل))(2)، و((مَدَحَه يمدَحُه مَدْحا: أحسن الثناء عليه))(3)، و((المَدْحُ نقيض الهجاء، وهو حسن الثناء))(4).
وإذا كان المدح ثناءً حسنا على الممدوح، فكيف يكون ذبحا؟
مدار محل الشاهد في الحديث النبوي على التحذير من المدح)) لأنه ذبح، فالحديث عن الذبح مَرَدُّه إلى الرغبة في بيان سوء عاقبة المادح أو الممدوح، ومن ثم كان لفظ الذبْح موظفا لبيان قبح المآل، وتنفير النفس منه.
وكوْن الذبْح مآل المدْح يُفيد أن مَن مَدَح أو مُدِح فقَدْ تَعرض للذبح، وهو ((مجاز عن الهلاك)) لأنه من أسرع أسبابه))(5).
معنى الشاهد في حديث الباب بناء على ما سبق أن من أثنى على أحد أو أُثني عليه فقد هلك، فالمادح والممدوح معا هالكان.
بقي أمران:
أولهما أن في رواية أخرى للحديث ((وإياكم والتمادح فإنه ذبح))(6)، وهي رواية تقصر الذبح على المادح سواء أكان مبتدئا أم ممدوحا يمدحُ في سياق التجاوب مع مادح، وهي تجعل عِلة الذبْح الاشتراك في المدح، والتفاعل فيه وبه.
والآخر أن فهم ربط المدح بالهلاك قريب يسير التقبل عندما يكون المادح كاذبا والممدوح راضيا، فماذا لو كان المدح بحق، والمادحُ صادقا، والممدوحُ كارها للمدح غير راض عن الممدوح؟
نرجئ الإجابة عن ذلك إلى حين الوقوف على أحاديث أخرى في الباب، ونعود هنا إلى علاقة محل الشاهد بباقي عناصر الحديث:
رأينا أن أول وجه للمناسبة في الجمع بين المال والفقه والمدْح هو التحذير النبوي، وهاهنا وجوه أخرى:
منها الاشتراك في المآل إذا لم يَعِ المسلم التحذير النبوي.
ومنها أن فتنة المال -لتَقدُّمْها في الحديث- أصلٌ الفتن، فهي تَصرف عن الدين والتفقه فيه، وتَدفع إلى التَّقَرب مِن أصحابه بالثناء عليهم.
ومنها أن الأخذ بحقٍ عاصمٌ مِن فتنةِ حلاوة المال وخضرته، وفتنةِ الانشغال عن التفقه في الدين بالتفقه في غيره، وفتنةِ المدْح قولا وسماعا.
ومنها أن غياب التفقه في الدين موقع في الافتتانِ بالمال، والمدْحِ من أجله، وحضورَه سببُ العصمة مِن الفتنة.
——-
(1) مسند أحمد، 13/196، حديث رقم 16845، علق عليه محققه حمزة أحمد الزين بقوله: إسناده صحيح.
(2) مقاييس اللغة، 5/308، مادة ((مدح)).
(3) مقاييس اللغة، 5/308، مادة ((مدح)).
(4) لسان العرب، 2/589، مادة ((مدح)).
(5) النهاية في غريب الحديث والأثر، 2/153، مادة ((ذبح)).
(6) مسند أحمد، 13/196، حديث رقم 16846، علق عليه محققه حمزة أحمد الزين بقوله: إسناده صحيح.