التاريخ مقوم أساس من مقومات كيان الأمة أو هويتها، يرتهن بمدى وضوحه وصفائه؛ وضوح وصفاء الوعي في وجدان وأذهان الأفراد والجماعات، ومن ثم دأبت الأمم الحريصة على سلامة وجودها واضطراد نموها على أن تكون مكونات التاريخ في كيانها مصونة من التحريف والاضطراب، بل وحتى من أدنى مظاهر التشويش التي تحجب ولو بعض الخيوط في نسيج المواقف والأحداث، ومن وراء تلك المواقف والأحداث من شخصيات، ألقت بثقلها من أجل رسم مسار تلك الأمم في معترك التدافع الحضاري، في سبيل حضور وازن وريادة معتبرة. وليس من شك في أن مسمى التاريخ يندرج تحته كل ما امتصه عقل الأمة من قيم وتصورات وتصديقات، ومناهج وأفكار وتوجيهات، هي عينها التي تتبلور في ما تحققه تلك الأمة على مسرح التاريخ من أعمال ومنجزات، وبطولات وانتصارات، أو ما تتكبده من هزائم وانكسارات.
وتمثل حقائق الدين وقيمه من خلال الشخصيات التي تحمله وتدعو إليه وتجسد القدوة في تمثله وتطبيقه على مستوى المواقف والسلوك، العنصر المركزي الذي ينبض بالحياة، ويمثل بوصلة التوجه وخريطة الإبحار، التي هي كفيلة بالتمييز بين المسالك والمهالك في خضم البحار والمحيطات. وبالنسبة للأمة المسلمة يفترض أن تمثل الأسوة الحسنة التي يمثلها رسول الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مركز الهداية والرشد للإنسانية في دروب الحياة، على اعتبار أنها تمتلك كل المفاتيح لكشف أسرارها وحل معضلاتها، على صعيد كل حقل من حقولها أو مجال من مجالاتها، وفي كل عصر من عصورها، ومن ثم فقد بات من الجلي لأولي الألباب، أن استمرار الأمة في موقع القوة والشهود على الناس، رهين بترسم هذه القدوة التي تكمن في الاتباع من غير انقطاع، استجابة لأمر الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} ففي ذلك الترسم يكمن الرشد كله، وتكمن الهداية كلها، وفي تنكب سبيلها يربض التيه والضلال، والتضعضع والاضمحلال. لقد دارت في ذهني هذه المعاني وأنا أعيش في غمرة ذكرى المولد الشريف على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، في زمن باتت “تخلد” فيه تلك الذكرى على مستوى الرسوم والأشكال، بل وفي إطار من الابتداع المقيت والمذموم، لا على مستوى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في الأقوال والأفعال، ينسحب هذا الحكم على الأنظمة الحاكمة انسحابه على قطاع واسع من الناس، إلا ما كان من جزر مترامية هنا وهناك.
إن هنالك بلا ريب، مخططات رهيبة تنفذ أجنداتها من أجل حجب القدوة عن دنيا الناس في سفينة المجتمع، حتى يبقى سيد الموقف فيها هو الارتباك والاختلال، جراء تكاثر النماذج المريضة التي يراد لها أن تحل محل النموذج الأسمى الذي يمثله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك بأن القوى المعادية للأمة قد حصل لها اقتناع، بأنها عاجزة عن إتلاف ميراث الأمة وتخريب مواردها التي هي قوام هويتها وكيانها الحضاري الأصيل، فلا أقل بعد ذلك من أن تنفذ ما هو في مقدورها من عملية الحجب المشار إليها، حتى تظل السفينة، ويظل أهلها محجوبين عن الريح الطيبة الضرورية للإبحار الآمن، ويستبدل بها ما هو في حكم الريح العقيم، التي تطوح بالقلاع والشراع، وتهدد السفينة بالغرق المحتوم. إن عملية الحجب هذه تجري على مستويات شتى: فهي تجري على مستوى ” منظومة” التربية والتعليم التي تغيب فيها معالم القدوة الحسنة، ولئن حضرت بشكل من الأشكال، ففي سياق رهيب من النقائض والمبطلات، التي تشكل فتنة لنفوس غضة وكيانات رخوة. وهي تجري على مستوى الإعلام بشكل عات وكاسح، من خلال تسليط الأضواء الفاقعة والقانية على نماذج السوء المصنوعة على عين مراكز الفجور وأئمة الفتنة الذين يبغونها عوجا، ولا تطرف لهم عين إلا وهم يرون الشباب صرعى الفتانين والفتانات الذين مردوا على بيع أنفسهم للشيطان لقاء متاع رخيص. وهي تجري بنفس القدر على مستوى بيئة مجتمعية يركض أغلب جمهورها في دروب معيشة ضنك كما تركض الوحوش في البرية، فأنى لمن افتقدوا الميزان، وحجبت عنهم سيرة النبي العدنان، أن يغالبوا تيارا كاسحا محملا بأعتى الفيروسات والجراثيم. إن عملا حضاريا ضخما ورائدا يوضع على كاهل شرفاء الأمة، يتمثل في إزاحة الحجب وتبديد ركام الأباطيل وصد أمواج الفتن التي تتربص بمصابيح القدوة بقصد حجبها عن المتعطشين للحق والفضيلة والجمال، وذلك ضمن مشروع متكامل تشخص فيه معالم الداء، وترصد معاول الهدم، ويتم فيه التعاون والتواصي على كلمة سواء: حماية السفينة من الأعداء، ومن الغوغاء، لدرء الفساد وصد البلاء.
د. عبد المجيد بنمسعود