مـقـدمـة : إن القرآن الكريم هو أساس حياة الأمة الإسلامية، وشرط وجودها وشهودها الحضاري، بالقرآن كانت خير أمة، وبه كان لها النفوذ والسلطان والسيادة في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي غيره من الأعصر الذهبية التي عرفها تاريخ الأمة ،وبه أيضا يمكنها من جديد العودة إلى الحياة الكريمة والوجود الإيجابي والشهود الحضاري، بالقرآن كانت وعلا ذكرها في العالمين ، وبه ستكون ويعلو ذكرها وشأنها في الناس من جديد ، وبغيره لن تكون شيئا مذكورا.
أولا : لـماذا القرآن هـو أسـاس الشـهـود الحضـاري لـلأمة ولـيس غـيـره :
إن السر في كون القرآن الكريم هو أساس الشهود الحضاري للأمة يرجع إلى عدة أمور منها :
1- أن القرآن هو الروح التي تحيى بها الأمة : فالقرآن هو الروح التي تبعث الحياة في الأمة ، يقول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أمرنا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الاِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(الشورى : 49).
2- أن القرآن هو الهدى الذي به تتحقق الهداية الحقة للأمة : وكما أن القرآن هو الروح فهو أيضا الهدى الذي به تتحقق لها الهداية الشاملة في كل مجالات الحياة علما ومنهجا، تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، تربية وتعليما، دعوة وإعلاما وعمرانا، و…، قال تعالى:{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُومِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُـونَ الصَّالِحَـاتِ أَنَّ لَهُـم أَجْـرًا كَبِــيــرًا} (الإسـراء : 9). وفي الحديث: >إن هذا القرآن سبب -أي حبل- طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكـوا بعده أبدا<(1).
3- القرآن هو النور الذي به تبصر الأمة آيات الطريق المستقيم : والقرآن أيضا هو النور الذي به تجلى الحقائق :{وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}(الشورى : 49) . وهو البصائر المبصرة للهدى المنيرة لبصائر المؤمنين:{هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُـــدًى وَرَحْــمَــةٌ لِّــقَـوْمٍ يُـومِنُونَ} (الأعراف : 203). بصائر القرآن بصائر حجة ، من أبصرها وأبصر بها،كان مبصرا ببصيرته للحق والنور والهدى: {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}(الأنعام : 105)، فالإبصار هنا إبصار للحق بميزان الحق القرآني والهدى الرباني.
4- القرآن هو أساس بناء الأمة وأساس خيريتها : وبهذا كان القرآن هو أساس بناء الفرد المسلم الأمة، وهو أساس بناء الأمة المسلمة وأساس صياغتها ، وهو أساس خيريتها، قال تعالى :{كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران : 110)؛ فالخيرية هنا خيرية شاملة : خيرية في العلم والمنهج، والقول والفعل، خيرية في الفكر والتعبير والتدبير، خيرية قلبا وقالبا ، خيرية أهلت الأمة -يوم كانت خير أمة- للقيام بوظيفة الإعمار للأرض والاستخلاف فيها ، قال سبحانه وتعالى :{هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب }(هود : 61). إن الله تعالى أنشأ هذه الأمة من الأرض إنشاء، واستعمرها فيها استعمارا ، فاقتضى منها ذلك استغفارا وتوبة منهاجية نصوحا لتستمر نعمة الإنشاء والاستعمار في الأرض.
5- القرآن هو أساس تأهل الأمة للشهادة والشهود الحضاري : وبهذا المنهج القرآني في الاستغفار والتوبة والعمران للإنسان وللأرض بالقرآن والصلاح والعدل ، تأهلت الأمة للشهادة على الناس ولتحقيق وظيفة الشهود الحضاري ، وبه لا بغيره تتأهل من جديد لأداء تلك الشهادة الحضارية، قال تعالى :{وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم }( البقرة : 143 )، إنها شهادة الأمة الوسط ، والوسط هو خيار الشيء وأفضله ، وهي أيضا شهادة الذين هدى الله من المؤمنين الصالحين المصلحين المجاهدين في الله حق جهاده ، المجتبين من الله اجتباء ، المقيمين للصلاة إقامة ، المؤتين للزكاة إيتاء ، المعتصمين بالله اعتصاما ، بهذه الصفات المنهاجية في التحقق والتخلق بالإيمان ومقتضياته ، استحقت هذه الأمة الوسط أن تتبوأ المنزلة الرفيعة، والمكانة العلية في الشهادة والشهود الحضاريين، وبتلك الصفات تستحق في كل زمان ومكان أن تعود لتلك المنزلة ، قال جل جلاله :{وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير}( الحج : 78 ).
6 – القرآن هو سبيل ولاية الله للأمة : إن الاعتصام بالله تعالى والتحقق والتخلق بمقتضاه هو سبيل ولاية الله للمؤمنين ، وسبيل نصره لهم ، قال تعالى : {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}(البقرة : 257)، وقال جل في علاه : {إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير}(التوبة : 116)، وبتلك الولاية وذلك النصر الإلهي كانت الأمة المسلمة أمة الريادة والإمامة للناس جميعا ، وبفضلهما استخلفها الله في الأرض واستعمرها فيها فعمرتها بالعمران القرآني ، فاستطاعت بذلك كله أداء وظيفة الترشيد والنصح للعالمين، وتأهلت للقيام بجميع الوظائف والأمانات المنوطة بها من قبل رب العالمين.
ثـانيا : طـريق عـودة الأمة إلـى الشهـادة الحـضـاريـة :
إنه لا سبيل للأمة اليوم للقيام بتلك الوظائف المذكورة قبل، إلا إذا استجمعت شروط التأهيل للقيام بها. فهذه الوظائف جميعها أمانات يجب أداؤها، وأداؤها لن ولم يتحقق بغير شروط التأهيل للشهادة الحضارية العالمية،ومنها الشروط الثلاثة التالية :
1 – الإمامة العلمية : إذ لا شهادة ولا شهود بدون علم ، فالشاهد هنا لا بد أن يكون عالما، راسخا في علم الشهادة، وبما أن الشاهد هاهنا هو الأمة ، فإنها هي أمة العلم بامتياز ، العلم المستمد من الوحي المسطور قرآنا وسنة بيانا وسنة منظومة زمانا، والعلم المستمد بميزان القرآن من الكون المنظور، إذ بالعلم الأول تعرف الأمة ربها ودينها ورسالتها الحضارية في الحياة تعبدا وتخلقا ودعوة وبناء وعمرانا واستخلافا ، وبالعلم الثاني يتم لها تسخير الكون تسخيرا يحقق العمران على منهج القرآن، ففي العلم الأول قال تعالى:{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}(آل عمران : 18)، وقال سبحانه: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}(آل عمران :7)، وفي العلم الثاني يقول سبحانه وتعالى :{ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}(لقمان : 20)، ويقول عز وجل:{لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}(الزخرف : 13)، فالأصل في كل الأكوان التي خلقها الله تعالى أنه مسخرة للإنسان ، والمطلوب منه اكتشاف سنن وقوانين تسخيرها كما أراد الله تعالى. والعلمان معا علم الوحي وعلم التسخير،لايتحقق بهما مراد الله إلا إذا كانت قراءتهما وتعلمهما والتحقق والتخلق بهما على منهج القرآن في قراءة القرآن والأكوان ، ومنهجه في ذلك أن تكون القراءة لكل مقروء باسم الله، {اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق : 1)، فإذا اختل هذا الشرط اختل المشروط له وهو العلم بالوحي كما أمر الله ، والعلم بالتسخير كما أراد الله .
2 – العودة الراشدة الصادقة المخلصة للقــرآن : عودة شاملة: تعلما وتعليما، دراسة ومدارسة، تحققا وتخلقا، حكما وتحكيما، عملا وإعمالا، إبصارا وتبصرا وتبصيرا ، عمارة وعمرانا .
3- التوبة المنهاجية النصوح : فهذه التوبة هي شرط نجاح الأمة في هذه العودة الشاملة إلى القرآن ، فالأمة لا تتأهل للشهادة الحضارية من جديد إلا بعد أن تتوب إلى الله تعالى توبة منهاجية نصوحا ، توبة للفرد وتوبة للأسرة وتوبة للمجتمع، وتوبة للدولة، وتوبة للأمة ، توبة في التفكير والتعبير والتدبير ، فالتوبة المنهاجية النصوح بهذا المعنى وبهده المواصفات والشروط هي سبيل العـودة وشرط النجاح في التأهل للشهادة على الناس كما أمر رب الناس، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير}(التحريم : 8)، إذ بهذه التوبة تتعلم وتتزكى وتتخلق بمقتضى التعلم والتزكية، فتحقق مراد الله في العمارة والاستخلاف والشهود.
خــاتـمـة : وحينئذ يبدل الله ذل الأمة عزا ، وضعفها قوة ، وفقرها غنى، وهزيمتها نصرا، وتخلفها تقدمــا، وتبعيتها قيادة، وخوفها أمنا ، وما ذلك على الله بعزيز إذا ما عادت الأمة عودة صحيحة سليمة راشدة نصوحة إلى القرآن، إذ تحقق ذلك كله والتخلق به لايكون إلا بالقرآن وبمنهج القرآن في التربية والتزكية والعمران، كيف لا وهو معجزة الله الخالدة التي تحدى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قومه، وهو معجزة التحـدي في كل زمان ومكان، لأنه كلام الله المطلق الذي يتجاوز الزمان والمكان ، قال تعالى : {سَنُرِيهِم آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُ الْحَقُّ }(فصلت : 53)، وهو أيضا كلام الله الذي جمع كل الهدى ، إذ فيه جماع الهدى وخير الهدى ، قال تعالى:{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون}(الأعراف : 52)، وقال عز وجل: {لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم}(الحج : 67)، وقال سبحانه : {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد}(فصلت : 44)، والله ولي التوفيق وهو يهدي السبيل.
د. محمد الأنصاري
———-
1 ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه : 1/329 رقم : 122 . وابن أبي شيبة في مصنفه :6/125. والبزار في مسنده : 8/346 .