للإعلام سلطة لا تقدر بثمن، وهو السلطة الأولى في تقديري كما سبق الذكر في عمود العدد الماضي، خاصة مع تطوّر وسائل الإعلام المقروء والمرئي والمسموع والمباشر، ثم الإلكتروني الذي بدَأَ يمهِّد لقاعدة أن كُلّ إنسان يمكن أن يكون إعلاميا أو صحفيا على الأقل. لكن هذا الإعلام قد يسقط أحيانا في متاهة يجعله بئيساً، ويدفع المرء إلى التساؤل عماذا يريد تحقيقه.
قبل حوالي ثلاثة شهور كنت في زيارة علمية خارج الوطن للمشاركة في إحدى المؤتمرات العلمية ومن المعلوم أن اللقاءات العلمية تستدعي حضور فئام من المهتمين والمتخصصين من جنسيات مختلفة، تكون فرصة للحديث عن قضايا مختلفة وفرصة للتعارف أيضا، خاصة في اللقاءات الهامشية، التي تسمح مما لا تسمح به اللقاءات الرسمية. وكنت دائما أُفاجَأ في مثل هذه اللقاءات الدولية، عن جهل العديد ممن ألتقي بهم بقضايا المغرب، إلى درجة أني كنت أُسائل نفسي دوماً : لماذا، أنا المغربي، أعرف عن بلدانهم ما لا يعرفون هم عن بلدي، خاصة ونحن في مستوى علمي واحد أو متقارب على الأقل؟ فكم من واحد سألني : هل عندكم بحار وشواطئ؟ وهل عندكم زراعة؟ وهل عندكم خضر وفواكه؟ وهل تنتجون البترول؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، التي كنت أستغرب في كثير من الأحيان طرحها وأنظر إلى أصحابها نظرة الريبة. في هذه المرّة اختلفت الحال، حيث كان الحديث عن الإعلام وسلطته، ومدى وطنية بعض وسائله، وكعادتي دافعت عن وطني، بل وبدأت أدافع عن إعلامنا وأنزهه عن تهمة الابتعاد عن الوطنية أو مجافيا لها، وأن استقلاله عن الدولة يجعله أكثر إيجابية وحيوية، ويأبى إعلامنا إلا أن يكذِّبني في تلك اللحظة بالذات. فلقد طلب مني أحد الحاضرين البحث عن قناة مغربية لمشاهدة بعض البرامج، وبعد جهد في البحث النقطت إحدى القنوات، وهي تقدم نشرة الأخبار في منتصف النهار. كان الأمر مخجلا منذ البداية، حيث كان موجز النشرة منبئا عن كل ما هو مشؤوم وسييء، بل وربما يطرح تساؤلا عن مدى صلته بمادة الأخبار :
- مدرسة معزولة هناك لا يستطيع التلاميذ الوصول إليها.
- وأقسام مهترئة يخشى سقوطها على التلاميذ.
- مرضى الكلي لا يجدون أجهزة لتصفية الدم.
- زارعو البطاطس لا يستطيعون نقل بضائعهم إلى الأسواق. أحسست بالحرج، وحاولت أن أبرر موقفي، بأن هذه القناة لا تتبنّى الموقف الرسمي للبلاد، وهي تجنح جنوح النقد الهادف للبناء، نعم هكذا بررت، ثم قلت بعد ربع ساعة هناك نشرة على قناة رسمية، فبدأت أبحث عنها ووُفقت في الأخير إلى التقاطها. لكن المفاجأة كانت صادمة أكثر من الحالة الأولى، خاصة وأنني وصفتها بالرسمية، فلقد كان الموجز بئيسا خاليا من كل سمات “الخبر” :
- قرية معزولة وطرق مقطوعة عنها.
- أمراض المفاصل عند الأطفال.
- أطفال مُتخلى عنهم….
نعم، لقد كانت صدمة بالنسبة لي، ووددت أني لم أثر ما يتعلق بالإعلام في بلدنا هذا. فلقد انتصر علي الطرف الآخر، وعرفت لماذا لا يعرفون أن لوطننا مآت الكيلومترات من الشواطئ، ولماذا لا يعرفون أن ثروتها السمكية أكبر من أن تحصى ولا أن تقدّر بثمن، ولماذا لا يعرفون أن بلدنا من المنتجين الأوائل للفوسفاط والمصدرين له، وأن بلدنا زراعي بالدرجة الأولى والحمد لله، وأن بلدنا يملك أكبر ثروة، هي الثروة البشرية، وأن هذه الثروة قادرة على الإبداع، ولكن يأبى إعلامنا إلا أن يكون بئيساً، بنقل كل صورة مظلمة عن هذا البلد الآمن، ويترك الصور المشرقة في البر والبحر والسماء. نعم لإعلامنا هامش كبير من الحرية لا تملكه وسائل إعلام أخرى في كثير من البلدان، لكن نعمة الحرية قد تتحول أحيانا إلى نقمة وخاصة حينما يُساء توظيفها، لا كمبدأ فقط، ولكن أيضا موضوعاً وإنتاجاً وتسويقاً.
د. عبد الرحيم الرحموني