تكامل الحقول المعرفية: العلوم اللغوية والعلوم الشرعية نموذجا


تمهيد : العلوم والمعارف كثيرة ومتشعبة، حتى إنه يصعب تمييز علم من آخر لوحدة المنحى، وإذا تأملنا في التراث العربي الإسلامي نجده يشكل منظومة فكرية واحدة، منبثقة من علوم متعددة وفروع متنوعة. سنبرز في هذا المقال أن المعارف متكاملة وأن بعضها يستلزم بعضها الأخر، وسنوضح هذه الفكرة من خلال إبراز أهمية العلوم اللغوية بالنسبة إلى العلوم الشرعية، ونظرا لتعدد وكثرة العلوم اللغوية وتوخيا للإيجاز سنخصص الحديث في هذا المقال عن دور علمي النحو والصرف بالنسبة إلى العلوم الشرعية.

1- أهمية العلوم اللغوية بالنسبة للعلوم الشرعية : ساهمت عوامل عديدة في نشأة العلوم اللغوية من أبرزها العامل الديني(1)، إذ يعتبر العامل الديني من العوامل الأساسية التي ساهمت في نشأة العلوم اللغوية وخاصة النحو والصرف، حيث كان الهدف الأساسي من نشأة العلوم اللغوية الحفاظ على النص القرآني والحرص على صيانته من كل تحريف أو تبديل، إذ كانت تهدف إلى عصمة ألسنة الناس من اللحن والخطأ. كما يسرت على غير العرب من المسلمين تعلم القرآن وفهم تراكيبه ومعانيه، ومن جهة أخرى مكنت العلوم اللغوية غير العرب من اللحاق بهم في الفصاحة، وهذا ما نلمسه بوضوح عند ابن جني على سبيل المثال، وهو يعرف النحو، فالنحو عنده هو: “علم به يلحق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة، وإن شذ بعضهم عنها رد به إليها”(2). ويبين الماجاشعي وظيفة النحو وعلاقته بالعلوم الشرعية : “علم به تعرف حقائق المعاني، ويوقف به على الأصول والمباني، ويحتاج إليه في معرفة الأحكام، ويستدل به على معرفة الحلال والحرام، ويتوصل به إلى معرفة الكتاب، وما فيه من حكمة وفصل الخطاب”(3). من هنا فقد نشأت العلوم اللغوية خدمة للعلوم الشرعية(4).
وقد اعتنى العلماء بهذه العلوم واعتبروها أقوم سبيل وأنجعه لفهم النص القرآني، ذلك أن النص القرآني نص لغوي بامتياز، رفيع في بيانه ومعانيه وتراكيبه. ونجد في كثير من كتب التفسير وعلم القرآن وأصول الفقه حثا على ضرورة تعلم العلوم اللغوية وإتقانها. يعلل الإمام فخر الدين الرازي ( ت 606) صاحب كتاب ” المحصول في أصول الفقه” أهمية العلوم اللغوية بالنسبة للمتخصصين في العلوم الشرعية بقوله : “اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية، لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع، ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل، فلا بد من معرفة أدلتها، والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة، وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم. فإذا توقف العلم بالأحكام على الأدلة ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة اللغة والنحو والتصريف، وما يتوقف على الواجب المطلق، وهومقدور للمكلف، فهو واجب، فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة”(5). يتبين من كلام فخر الدين الرازي أن معرفة الأحكام الشرعية متوقفة على معرفة اللغة وقواعد النحو والتصريف. ويؤكد أبو البركات الأنباري ضرورة تعلم الفقيه المجتهد علم النحو، ذلك أن حسن اجتهاده في استنباط الأحكام وضبط القواعد الفقهية متوقف على طبيعة فهمه لقواعد اللغة وتراكيبها ودلالات أبنيتها. يقول في كتابه : “لمع الأدلة في أصول النحو” : “إن الأئمة من السلف والخلف أجمعوا قاطبة على أنه شرط في رتبة الاجتهاد، وأن المجتهد لو جمع كل العلوم لم يبلغ رتبة الاجتهاد حتى يعلم النحو فيعرف به المعاني التي لا سبيل لمعرفتها بغيره، فرتبة الاجتهاد متوقفة عليه لا تتم إلا به”(6). واضح من خلال هذا النص أن الفقيه يوظف قواعد النحو وتراكيب اللغة، فالقواعد النحوية بمثابة آليات وأدوات لسانية تمكن الفقيه من استنباط وضبط القواعد الفقهية. أما علم الصرف، فما انتظم عقد علم إلا والصرف واسطته، ولا ارتفع مناره إلا وهو قاعدته، إذ هو إحدى دعائم الأدب وبه تعرف سعة كلام العرب، وتنجلي فرائد مفردات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية(7)، وثمرته صون اللسان من الخطأ في المفردات ومراعاة قانون اللغة، إذ هو العلم الذي تعرف به أحوال أبنية الكلم(8)، وقد صدق من قال في حقه : من لا يعرف الصرف لا يعرف العربية. إن المعرفة اللغوية، نحوية كانت أم صرفية، شكلت أهم الأدوات اللسانية التي استند إليها العلماء في تأسيس العلوم الشرعية، بل إن المعرفة اللغوية شكلت منطلقا أساسيا، حيث استعان بها العلماء في فهم النصوص القرآنية والحديثية واستنباط الأحكام الشرعية منها. وقد اعتبر العلم بأسرار العربية شرطا من شروط الاجتهاد. وتحتل المباحث اللغوية جزءا ملحوظا في مباحث العلوم الشرعية، بل إن القضايا الشرعية مبنية على أسس لغوية، وهذا ما يدعمه كلام السيوطي الذي بين في الإتقان(9) أن على المفسر قبل البدء في التفسير أن يكون على إلمام بخمسة عشر علما أولها علم العربية وثانيها علم النحو وثالثها علم الصرف…الخ. وبمعنى آخر إن الفقيه ليكون فقيها يجب عليه أن يكون فقيها باللغة وقواعدها ونحوها وتصريفها.

2- العلوم اللغوية والعلوم الشرعية : صور التكامل والتعاون : يزخر التراث اللغوي العربي بالعديد من المعطيات التي تظهر مدى التكامل بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية وأن بعضها استفاد من بعضها الآخر، وهو مظهر من مظاهر التكامل بين المعارف، وأن بعضها يستلزم البعض الآخر، من ذلك المناظرات العلمية التي كانت تجري بين الفقهاء واللغويين(10)، ومنها مناظرة جرت بين الفراء ومحمد بن الحسن القاضي، وأخرى جرت بين الكسائي النحوي وأبي يوسف الفقيه النحوي الحنفي. كما نهج بعض اللغويين نهج الفقهاء في تقعيد العديد من القضايا والظواهر اللغوية، من ذلك أن ابن جني حاول استخراج أصول نحوية تصف اللغة العربية، وتكشف خصائص الحكمة والصنعة والإتقان فيها سالكا في ذلك مذاهب أصول الكلام والفقه(11)، كما أن ابن جني(12) اتبع طريقة الشافعي في حل بعض المشكلات اللغوية، وصنف أبوالبركات الأنباري كتابه في العربية مرتبا إياه على مسائل فقهية خلافية بين الشافعي وأبي حنيفة(13).
وألف جلال الدين السيوطي كتاب الأشباه والنظائر في النحو سالكا فيه مسلك الأشباه والنظائر في الفقه. يقول السيوطي في الأشباه والنظائر(14) : “واعلم أن السبب الحامل لي على تأليف ذلك الكتاب أني قصدت أن أسلك بالعربية سبيل الفقه فيما صنفه المتأخرون فيه وألفوه من كتب الأشباه والنظائر”. وألف السيوطي كتاب المزهر في علوم اللغة وأنواعها محاكيا به علوم الحديث في التقاسيم والأنواع(15). وألف السيوطي أيضا الاقتراح في أصول النحوعلى نظير الاقتراح في أصول الفقه(16). ومن صور التفاعل والتكامل أيضا استرشاد العلوم الشرعية بالعلوم اللغوية والعكس صحيح، على نحوما جاء في تعليق أبي يوسف الفقيه على مسألة جاءت في الشعر بأنها مسألة نحوية فقهية(17). وما كان يروى عن أبي عمرو الجرمي، شيخ المبرد، من أنه كان يفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه، وكان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث. بل إن سيبويه عندما ذهب إلى البصرة ذهب أصلا لدراسة الحديث والفقه والآثار، قال عنه الخطيب البغدادي : “كان يطلب الآثار والفقه ثم صحب الخليل… فبرع في النحو… وكان في أول أيامه يعجبه الفقهاء وأهل الحديث”(18).
خـــلاصـة : يتبين مما سبق مدى التكامل بين العلوم اللغوية والشرعية، ذلك أن العلوم اللغوية بكل فروعها تؤدي دورا هاما في إبراز المعنى واستخلاص دلالات التركيب، كما تزود الفقيه أو عالم الشريعة بأدوات لسانية تمكنه من استنباط الأحكام الشرعية، والقواعد الفقهية، فإذا كان النص القرآني نصاً لغوياً بامتياز رفيع في بيانه ومعانيه وتراكيبه فإن العلوم اللغوية تمثل أقوم سبيل وأنجعه لفهمه وإدراكه.

د. محمد الغريسي(*)
———–
(ü) أستاذ باحث في اللسانيات -جامعة مولاي إسماعيل- الكلية المتعددة التخصصات – الرشيدية.
1- من بين العوامل الأخرى التي كانت وراء نشأة العلوم اللغوية :
- العامل القومي الذي ساهم في إذكاء شعور العرب بأهمية لغتهم، فاجتهدوا في وضع قواعدها واستنباط قوانينها على غرار ما وجدوه في ثقافات الأمم التي فتحوها، فكان لزاما عليهم استكمالا لشخصيتهم الثقافية، وتمثلا للدور الحضاري الذي أصبح منوطا بهم، أن يعتنوا بلغتهم حتى تصبح وعاء لعلوم شتى ومرجعا لحضارة فنية آخذه في النمووالازدهار.
- العامل السياسي الذي لعب أهمية كبرى في دفع الدراسات النحوية نحوالنضج والاكتمال، وتطوير مناهجها وطرقها وجعلها صالحة للتلقين والتعليم وذلك على يد الموالي، إذ برز منهم نحاة عديدون ولعل أشهرهم كان سيبويه الفارسي الأصل.
2- ابن جني، الخصائص 1 / 34
3- شرح عيون الإعراب، ص : 123
4- نقصد بالعلوم الشرعية العلوم التي تفرعت عن الكتاب والسنة وإجماع علماء الشريعة كالعقيدة، والفقه، وعلم التفسير، وعلم الحديث
5- اُنظر : المحصول في أصول الفقه،ص:23
6- اُنظر: لمع الأدلة في اصول النحوص: ص: 35
7- اُنظر: أحمد الحملاوي شد العرف في فن الصرف، ص: 7
8- اُنظر : شرح الشافية لابن الحاجب 1/146
9- اُنظر السيوطي، الإتقان في علوم القران، ج1، ص: 212
10- نظر على سبيل المثال : الموافقات في أصول الشريعة 1 / 84، واُنظر أيضا: الإمتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي 1 / 146
11- ابن جني : الخصائص، 1/ 24
12- ابن جني، نفسه 1/25
13- اُنظر على سبيل المثال: الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، المسألة 5)
14- الأشباه والنظائر في النحوص: 23 15- اُنظر : المزهر في علوم اللغة وأنواعها 1 / 1
16- اُنظر الاقتراح في أصول النحوص: 17
17- للتفاصيل اُنظر: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام الأنصاري، تذكرة النحاة، ص : 76.
18- اُنظر : تاريخ بغداد : 12/ 195

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>