من السنن الربانية في الاجتماع البشري؛ أن إعادة بناء أمة من الأمم؛ رهينٌ بإعادة إنتاج ظروف نشأتها الأولى. وهي الكلمة التي نطق بها الإمام مالك رحمه الله، فصارت مثلا يضرب، وحكمةً تسير بها الركبان: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها!)
وإنما كان أول هذه الأمة وبدؤها قطراتٍ نزلت من السماء، في ليلة مباركة من ليالي رمضان.. فكانت الآياتُ الأُوَلُ من سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الانسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الانسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
ولم تكن هذه الأمة قبل ذلك شيئا يستحق الذكر. ولكنها بعد ذلك مباشرة بدأت أول أنسجتها تتخلق. ومن المعلوم أن القرآن كان يتنـزل منجما: آيات آيات.. على حسب الحاجة التربوية للجماعة المؤمنة الأولى. وكان في ذلك حكمة بالغة. وهي أن هذا القرآن إنما كان يمارس عملية بناء وتكوين؛ لأول لبنة في حصن هذه الأمة عبر التاريخ!
وبهذا المنطق الرباني الرفيع تعامل الصحابة مع القرآن، فكان إحساسهم بكلمات الله عميقا جدا. يتلونها بشوق المتلهف إلى معرفة الله، والوصول إلى مقام العلم به تعالى! وكلما فتر الوحي لحظة؛ وقفوا بباب الشوق مترقبين؛ حتى إذا تنزلت الآيات على قلوبهم كان لها وقع الماء على الأرض الطيبة! فكان الإنبات وكان العطاء بإذن الله! ومن هنا لم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن على أصحابه وعلى الناس – داعيا ومربيا – إلى أن كان من هذا الشأن ما كان! {هو الذي بعثَ في الامِّيِّين رسولاً مِّنهم يتلو عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإِن كانوا مـــن قبلُ لفي ضلالٍ مبين.}(الجمعة :2).
فمن هنا إذن؛ تعلم الصحابة الكرام من رسول الله صلى الله عليه وسلم -بما عامله الله من منهج تنزيل القرآن منجما- أن هذه الآيات يجب أن تنبت في الأرض، وأن تتحقق بركاتها في كل مكان! وتلك كانت من أهم وظائف النبوة، التي ورثها الصحابة رضوان الله عليهم عن سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. فكانوا بمجرد ما يتلقون الآية تنطق بها أحوالُهم حركةً حية، تبني عمران الروح، وتصنع وجدان الأمة الواحدة؛ خفقةً خفقةً! تتوحد عليها القلوب جميعا، محققة شهادة : (أن لا إله إلا الله) عمرانا بشريا عابدا لله. ومن هنا كان ذلك التاريخ الذي كان!
إن أهم معلم، وأوضح خاصية، يمكن ملاحظتها في البعثة النبوية ابتداءً؛ هي ظاهرة التداول القرآني. ومعنى ذلك أن الاشتغال النبوي إنما كان بالقرآن أساسا، فقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في بداية الأمر من كتابة شيء غير القرآن! وذلك كما في حديثه المشهور، إذ قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن! فمن كتب عني غير القرآن فليمحه! وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار!))(رواه مسلم). وقد تواترت أخبار الحركة القرآنية، التي طبعت جيل الصحابة؛ اهتماما، وقراءة، ومدارسةً. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يشتغل به داعيا إلى الله، ومربيا. وإنما أسلم معظم من أسلم من الصحابة؛ تأثرا بسماع شيء من القرآن! لقد كان للقرآن في جيلهم خبرٌ مَهيب، ونبأ عظيم! يتلقونه ويبثونه؛ حتى صار القرآن هو الحديث الأبرز في تلك المرحلة، تَنَزُّلاً وتداولاً.
إن المسلمين اليوم، يقرؤون القرآن، نعم؛ ولكنهم لا يتداولونه. إننا نقصد بـ(التداول): الاشتغال الذي يعمر الحياة؛ حتى يطغى على كل شيء سواه؛ تلاوةً، وتعلماً، ومدارسةً، وتدبراً، وتبصراَ، وفُشُوّاً بين سائر فئات المجتمع وطبقاته.
وما كان لهذه الأمة اليوم – وهي تعيش مرحلة غفوتها، ولحظة انسحابها من التاريخ – ما كان لها لتولد من جديد بنفس خصائصها التي أنتجتها؛ ولَمَّا تحدث في نفسها تلك الأحوال النفسية والاجتماعية، التي صاحبتها يومئذ تجاه القرآن العظيم؛ من التلقي إلى التزكية!
فَمَنْ لهذا القرآن اليوم؟ من له يستخرج كنوزه، ويكشف درره المتاحة لهذا الزمان خاصة! من ذا من المؤمنين الربانيين يتجرد له، فيخرج به إلى الناس عُمْلَةً نفيسة، يجدد تداولَها بين العامة والخاصة، من منابر العلماء والخطباء إلى دوائر أهل الاختصاصات، من مهندسين ومدرسين وأطباء، إلى شرائح التجار ورجال الأعمال والأموال، إلى أصحاب القرار من الإداريين والسياسيين؛ معلنا أن هذه الأمة إنما هي صنيعة كلمات الله! وأن هذه الكلمات المتلوة اليوم في كتاب الله هي الآن لكم أيها الناس! لكم أنتم بالذات! خطاب تنزل في شأنكم من رب العالمين!
فمن ذا يلتفت إلى خطاب الغيب قُبَيْلَ انكشاف الحجب وفوات الأوان؟ من ذا ينصت إلى صوت دوران الأرض وهي تجأر إلى مولاها، على تمام الموعد مع خطاب السماء، في جواب واحد لرب العالمين، لا تردد فيه ولا تلجلج: {قالتا أتينا طائعين!}.
إننا في حاجة إلى جيل ينطلق إلى القرآن بقوة، ويأخذ حقائقه الإيمانية بقوة، ثم يمشي بها في الأرض؛ بما لديه من رغبة جامحة في الحياة! يمشي بها آية آية، بعيون مبصرة، وقلوب صافية مشرقة، ليروجها في حركته الاجتماعية الشاملة، نبضة نبضةً، وخطوةً خطوةً.. ناظما بذلك حركةَ التدافع الإنساني في الأرض بحبل الله المتين، الرابط بين عالمي الغيب والشهادة! تماما كما ترتبط حركة المد والجزر في البحار والمحيطات؛ بقوى الجاذبية بين الأرض والقمر.
بهذا المنهج النبوي الحق يتخلق النسيج الاجتماعي من جديد، وتنبعث خلايا هذه الأمة التي تمزقت منذ آماد طويلة.. وإن ذلك لهو النداء القرآني الخالد {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}(ق:37). قال تعالى: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الامَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الارْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(الحديد:16- 17).
ذلك؛ ولا غالب إلا الله!