فيه عبق ونفحات ولـمسات وأنوار من حياة أبي بكـر الصـديـق رضي الله عنه


بسم الله الرحمن الرحيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، شكَرَ الله للحضور الكريم هذا الإنصات وهذا الاهتمام لهذه الكلمات الطيبة، التي تحثّ وتحفز وتهدي إلى العناية بالقرآن الكريم.

الحقيقة أن مجلسنا هذا يليق به أن يَدعوَ بالرحمة والمغفرة لكلّ مؤمن ومسلم على مدى التاريخ، شاركَ في حمل هذه الأمانة بأمانة، ونشرها بأمانة، ورعاها بأمانة؛ كما يليق بهذا المجلس أن يدعوَ لمن هو على قيد الحياة، بأن يحمل هذه الأمانة ويؤديها إلى الأجيال، لتبقى هذه الأمانة تنتقل من الأيدي الأمينة إلى ما شاء الله، وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).

أما ما أقول في سيدي المفضل الفلواتي، أقول ما عرفته مباشرة، لا ما أسمعه كلمات أو ما يُكتب، هذا الرجل ولا مزايدة، أقول ما عرفته كما عرفته، تكاملت أخلاقه، كان محافظاً على الفرائض، متوسِّعاً في النوافل، كاتماً لعمله الربّاني، باذلاً لماله، أقول كان كريماً سخيّاً، ولكن كان يستقل كرمه وسخاءه وجوده، كان صبوراً، وحينما أقول صبورا كان حليماً أيضاً، فكم مرة كنا نزعجه، ونحاول إزعاجه وإغضابه، فكان يزداد حِلما وصَبرا وتبسُّماً، كان يحمل همّاً لنفسه، ولأهله، ولمن يرافقه، ويحمل هما للأمة كلها، كان همّه واسعاً، شاملاً، كان يسهر في البحث، في المراجع والمصادر واللقاءات من أجل صياغة نصائح أو إرشادات أو توجيهات، ليس لتأليفه كما قال سيدي الدكتور الوزاني في كتب السيرة، ولكن في مجال التربية، في مجال الدعوة، كان نومُه لا يستطيع أن يتغلب عليه، وكان يُكرَه أحياناً على بعض المواقف من أحبائه وخلانه ورفاقه، ففي نفسه رفض وتمنّع، ولكنه إرضاءً لرفاقه يتقبّل ويتذلَّل، كان ذلولاً لرفاقه وإخوانه، إن حاولنا التنبيه على أبرز أخلاقه ومكارم سجاياه كانت تتمثل في النصيحة الصادقة الخالصة التي لا يشوبها ما يشوب…، وكان ينطلق دائما من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح، وخاصة كان يستشهد كثيراً بسيرة أبي بكر رضي الله عنه والصحابة أجمعين، كان أقوى ما يتصف به سيدي المفضل مع ما ذكرت من السَّخاء والحِلم والصبر، كان يتصف بكتمان السرّ، كان بئراً عميقة، كم وعى من شكاوى، من قريب ومن بعيد، ويكتوي هو، ولا يعرض شكواه هو على الآخر، أما عمله العلمي هذا فهو واضح في مؤلفاته المتعددة في مجال التربية ومجال السيرة النبوية، وقد كان مبرَّزا في ذلك منهجاً وموضوعاً وأسلوباً ووضوحاً، وضوح الغايات، ويمكن التطلع أو استكشاف الممهِّدات التي أدّت أو أفضت بسيدي المفضل إلى أن يُخلِّص نفسه للقرآن الكريم، بروره بالدعوة، بروره بالإعلام، حيث كان هو المشرف على مجلة الهدى وعلى جريدة المحجة، بُروره بمختلف اللقاءات، ومحاولة التقريب والتصالح والتفاهم بين الجمعيات الإسلامية الحركية في المغرب، بروره بعمله الرسمي حينما كان أستاذا مدرِّساً، فقد كان بارّاً بطلبته، حيث كانوا يعتبرونه أباً وليس أستاذا فقط، يفضون إليه بمشاكلهم وقضاياهم ومسائلهم، فبعد انتهاء الحصة الدراسية يبقى مع التلاميذ ومع الطلبة، ففتح الله له قلوب كثير من الأساتذة وكثير من الطلبة نظراً لهذه الروح الصبورة المهتدية المنيرة، أنواع من البرور، وجوه وأشكال من البرور، سيدي المفضل الفلواتي، ربما ولا أقول ربما، ربما بالنسبة لي أما بالنسبة إليه كان صادقاً في كل وجوه بروره، فيبدو أن كلما تعددت وجوه البرور والتقوى والورع كلما تعددت تكاملت وشكلت في النهاية مخرَجاً عريضاً واضحاً إلى طريق مستقيم، فكأني به في آخر حياته راجَع نفسه فوجد أن خير الأعمال التي يحرص الإنسان أن يختم بها عمره هو في رحاب كتاب الله، ولذلك فرَّغ نفسه، وأنا أقول فرغ نفسه من أعمال الطاعات الأخرى، وهيأ الله له أهلاً أعانوه على ذلك بارك الله فيهم زوجة وأبناء، ليس أمراً سهلاً أن يختِم الإنسان، وهذا أمر ليس بيدنا نحن وإنما هو من تدبيره سبحانه وتعالى، ولكن يُذكّرني الحديث الصحيح الذي رواه أبو عبد الرحمن عبد الله بن مسعود : “وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار -دعني من عمل أهل الجنة- حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة، قالوا كيف؟ كيف يعمل حياته بأعمال أهل النار، وأخيرا يُختم له بالحسنى؟ في حديث آخر عند ابن رجب يقول “فيما يبدو لكم”، هذا يفسر هذا وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو، فيما يظهر لكم، حسب حكمكم، ولكن هناك في الغيب شيء آخر عند الله عز وجل، أما الذي يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، هذا الموضوع تناقشه كثير من العلماء، قالوا كيف؟ كيف يقضي الإنسان حياته في العمل الصالح والمبرّات والمَكرُمات وأخيرا يُختم له بالسوء؟ قال العلماء: من كان صادقاً، مخلِصاً، مقتدياً، متَّبِعاً مهتديا يُختم له بالحسنى، لا يُختَم له بالسوء، بمعنى أن الذي يُختَم له بعد مراحل حياته في العمل الصالح بالسوء، لم يكن مخلِصا ولم يكن مقتديا ولم يكن متَّبِعاً، طبعا، أنتم تعلمون جميعاً أن المؤمن لا يزكي نفسه، ولم أسمع يوماً ما من حياتي مع سيدي المفضل تزكية منه لعمله، دائما يتهم نفسه كما قال صلى الله عليه وسلم : ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)).

أيها الحضور الكريم، إن كنَّا نخلُص من هذه الكلمات التي استمعنا إليها ومن حياة هذا الرَّجل، رَجل، الرَّجُل، أقول فيما يبدو لي أن سيدي المفضل فيه عَبق إلى حدّ ما من شخصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فيه عَبَق، فيه نفحات، فيه لمسات، فيه أنوار من حياة أبي بكر، وخاصة في رزانته، الرزانة المتعقِّلة، وفي هدوئه الدافئ ليس في الهدوء البارد، هدوئه الدافئ، ورزانته المتعقِّلَة المتثبتة ونظرته العميقة إلى شؤون الناس، رحم الله سيدي المفضل، والسلام عليكم.

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>