المبادئ : هي الأسُس الفطريّة والدينيّة والإنسانية التي لا يجُوز المسَاسُ بها مهْما كانت الدوافع والمبرِّرات، مثل :
- لا إ كْراه في الدِّينِ، فلا حقّ لأحَدٍ في أنْ يُكْره أحداً على الدّخول في الإسلام، لأن الله عز وجل هو الذي ترك للناس حرّية اختيار الدّىن الذي يقتنعون به، ولذلك فالله عز وجل لا يقْبَلُ صلاَة مُكْرهٍ، أو صلاة منافقٍ، ولا يقبَلُ صَدقة مرَاءٍ مُدَاهِن مخاتِلٍ، وإنما يقبل التديُّن النابعَ من القلب المغَذّى بالإخلاص.
- احترام معتقدات المخالِف لك : فلا حقّ للمُسلم في أن يظلم أو يُهين أو يُضَيِّقَ على الذي يخالفُه في المُعتقدِ، بل عليه أن يحترِم اختيارَهُ، وإذا جادَله في معتقداته جادله بالحُسْنى بدون حَطٍّ من الكرامةِ {لا يَنْهاكُم اللّه عنِ الذِين لمْ يُقاتِلُوكُم فِي الدِّين ولمْ يُخْرِجُوكُم من دِيارِكُم أن تَبَرُّوهم وتُقْسِطُوا إلَيْهِم إنّ اللّه يُحِبُّ المُقْسِطِين}(الممتحنة : 7).
وإذا كان الإسلام صريحا في هذا المبدإ نصوصاً وتشاريع، فإنه كان صريحاً أيضاً تعاملاً وسلوكا، فقد كانت الدعوة للإسلام قائمة بمكة، وجوهَرُ الدعوة الإسلامية تطهير المعتقَد من كل الشركياتِ، ومع ذلك لمْ يتعرَّض أحدٌ من المسلمين لاقتلاع الأصنام من أماكنها، حتّى اقتنع أصحابُها بعدم جدواها فاقتلعوها بأيديهم بعدما اقتلعوها من قلوبهم أولا. وتعايش المسلمون واليهودُ بالمدينة في انسجام وطنيٍّ راقٍ حتى كان الخرقُ لهذه المواطنة الكريمة بأيدي اليهود الذين نقضوا العهود.
إلا أن الإسلام جعل لهذا التسامح حدوداً، وحدودُه ألا يَصِل الأمْرُ إلى حدِّ التفريط في حماية الإسلام من كيد الكائدين، وطعْن الطاعنين، واعتداء المعتدين، فإذا وقع التعدي على أراضي المسلمين، أو على المستضعفين منهم، أو وقع الطعن في مبادئ الدين، وتشويه رسالته ومقدساته.. آنذاك حُقّ للمسلمين دُولاً وشعوباً وعُلماء وأُسراً أن ينهضوا لرَدِّ الغارات، وكسْر الهجمات {إِنّما ينْهَاكُم اللّهُ عنِ الذِينَ قاتَلُوكُم في الدِّينِ وأخْرَجُوكُم من دِيَارِكُم وظَاهَرُوا علَى إخرَاجِكُمْ أن تَوَلَّوْهُمْ ومَنْ يتَوَلّهُم فَأُولَئِك هُمُ الظَّالِمُون}(الممتحنة : 8)، {وإنْ نَكَثُوا أيْمَانَهُم مِن بَعْدِ عَهْدِهِم وطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهُم لا أيْمَانَ لَهُم لعَلَّهُم ينْتَهُون}(التوبة : 11) فحقُّ الدّفاع عن الدين والنفس والعرض والأرض مضمون في الإسلام كما هو مضمون في جميع القوانين البشرية العاقلة.
أما سلاحُ المقاومة للخطر الداخلي المتجسِّد في النفاق الذي يستمِدُّ قوته من أعداء الأَوطان والأديان فىُخْتَصَرُ في التقوى والصبر، أي ملازمة الجهاد الدّعوي والتربوي وتفويض الأمْر لله تعالى الكفيل بخزْيِ المنافقين، وكشْفِ أوراقِهم، ومسْخِ أساليبهم في الدنيا، ووعيدهم بالدرك الأسفل من النار في الآخرة {وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضِرْكُم كَيْدُهُم شَيْئاً إنّ اللّه بِمَا يَعْمَلُون مُحِيط}(آل عمران : 119).
- احْترام حُرّية الاخْتيار السياسي : أي احترام الإرادة الإنسانية في التجديد للحياة السياسية، وتغيير النمَطِيّة الجامِدة التي تقود للتخلف واليأسِ والإحباطِ والإفلاس، ولا سبيل لتجسيد هذه الإرادة المجدِّدة إلا بشيئين : فتحُ باب حرية الاختيار على مصراعيه، ثم الرِّضا بما أفرزته الاختيارات مهما كانت النتائجُ.
كل ذلك يتمُّ -طبعاً- وفق الأُسُسِ الدينية والدستورية التي لا تخالِف اختياراتِ الأمة الإسلامية منذ أخرجَها الله تعالى للوجود، إذْ ذلك من البَدَهِيّاتِ والقطعيات ا لمسلَّم بها وجوداً، وتاريخاً، وشرعا، وعُرفا، وعقلا. فمسألة إسلامية الأمة الإسلامية، وإسلامية شعوبها ليستْ محَلّ مناقشةٍ أو مساومةٍ مهما حاوَل العُملاء والمنافقون المأجورون إحْداث فَتْقٍ قاتِلٍ في البناءِ الإسلامي الممتد قرونا وأجيالا، فإن ذلك مآلُهُ الخسرانُ المبينُ، لشيء واحِد : هو أن إسلام الأمّة وإسلامَ شعوبها يحميه ربّ العالمين، المُهيمنُ على المتسلطين والظالمين والفاسقين والمنافقين، شَعروا بذلك أم لم يَشْعُروا، قَدَّروا ذلك أم لم يُقَدِّروا، فهُم لا يتَعَدَّوْن أن يكونوا ساعينَ لحُتوفِهِمْ بأظلافِهِمْ، وحافرين لقبورهم بأنيابهم.
إذن فحرية الاختيار السيـــاسي معناها : اعتبارُ الحُكْم وتحمُّلِ المسؤولية القيادية أمانةً وتكليفاً، وليْسَ غنيمةً وتشريفاً، ووسيلةً للتجديد والإبداع وخدمة المصالح العامة، وليْس غايةً للإثراء والرّتع وقضاءِ المصالح الشخصية الخسيسة، فتحمُّلُ المسؤولية لصلاح البلاد والعباد أمانة ثقيلة ثمَنُها في الدنيا خلودُ الذّكْر، وفي الآخرة عُلُوُّ الأجر، أما تحمُّل المسؤولية للّعب والعبثِ بمقدّرات الأفراد والشعوب فثمنُها في الدّنيا سُوءُ الذِّكر، وفي الآخرة ثِقْلُ الوِزْر، إنما لا يعِي هذا إلا مُنَوّر البصيرة بنور الله أمّا مطموسُ البصيرة فهو في شقائه يمرَح ويكدَح حتى يسقط من علْياء أوهامه صِفر اليَدَيْن، طلَّقتْه الدنيا بالثلاثِ، وتخلَّت عنه، وشهِدتْ عليه كُلُّ ذرة من ذراتها يومَ تُحدِّث أخبارها، وتفضح أشرارها.
هذه بعض المبادئ فقط التي يجب الحفاظ عليها لتُساعِد على استقرار الأمن وسيادة الثقة بين الكبير والصغير، والغني والفقير، والأمير والأجير، وتساعد على تجنيد الجميع لخدمة المصلحة العامة، ابتغاء مرضاة الله تعالى ونشر رسالة الأمّة.
وتطبيقا لسياسية المبادئ التي امتاز بها الإسلام نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1) يتغَاضى عن الأخْذِ والمُطالبة بالـمثْل : في صُلح الحديبية، حيث اشترطت قريش على محمد صلى الله عليه وسلم أن يرُدَّ على قريش كُلَّ من جاءَهُ مسلماً بدون إذن وليِّه، ولم تلتزِم في المقابل برَدِّ من جاءَها مرتَدّاً، وظنت قريش لقصر نظرها أنها طَعَنَتْ محمداً صلى الله عليه وسلم طعنةً نجلاء، وظفرت ظَفرةً عَصْماء، وظن المسلمون -لانعدام بُعْد النظر الدعوي لديهم- أنهم غُبِنوا غَينةً تَيْهاء، فبَيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم لهم مزيلا الغِشاوة الجاهلية عن الأعْيُن- أن تنقية الصّفِّ من المرتَدِّين أمْرٌ في غاية الأهية يعمل المسلمون على تحقيقه، فكيف يُنقِّي الله الصّف من الأمراض والمرضى ويسْعى المسلمون إلى جَلْب الدّاءِ وتوطينه ليخرِّب الداخل؟! فرجل المبدإ ورجل الرسالة عيْنُه على مبدئه ورسالته لا على عصبيّته وعُنْصريته وإرضاء حظوظ نفسه.
2) عندما تصَدَّى عليٌٌّ رضي الله عنه في غزوة الأحزاب لبطل قريش عمْرو بن وُدٍّ وقتَلَه، طَلَبتْ قريْشٌ جُثَّتَه بفدْية عالية جدّاً، فردَّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المشرك نجِسٌ حيّاً وميتاً، ومنْ نجس معنويّاً نجستْ فديتُه، فسمَح لهم بأخْذِ جيفتِهم بدون فداء، ليعطيهم هم والمسلمين درساً في السموّ والترفّع عن النزول إلى مستوى الأطماع وانتهاز الفرص ولو في أشد الأوقات عُسراً وحرجاً، وليقول لهم : نحن أصحاب مبادئ ورسالة ولسنا لصوصاً وسماسرة سياسة مفلسة.
3) لقد قال ابن أبي {لَئِن رجَعْنا إلى المَدِينَة ليُخْرِجَنّ الأَعَزُّ مِنهَا الأذَلّ} وهو سبٌّ لرئيس الدولة يستوجب ما يستوجبُ من العقوبة، وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم ولَدُ عبد الله بن أبي أن يأتيه برأسه إذا كان يُريد قتله، فقال له صلى الله عليه وسلم ((بَلْ نُحْسِنُ لَهُ ما بَقِيَ معَنَا)) معنى هذا أن صاحب المبادئ لا يحقد على أحدٍ ولا ينتصر لنفسه، وإنما يعاقب دَرْءاً للمفسدة، وجلبا للمصلحة، وهذه السياسة المبْدَئية هي التي طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال لقريش ((إذْهَبُوا فأنْتُم الطُّلَقَاء)).
إن المنظمات الدّولية النافذة في عصر العولمة المُلجمَة بسيادة القطب الواحِد الأوحد قد عَوَّدتْنا على الكَيْل بمكْيالين، والوزن بميزانَيْن، فالثورة هنا ليسَتْ هي الثورة هناك، ففي الحال الأول قد تنادى كُلّ أزلام هُبَلِ العَصْر بالتأييد والتعضيد، وفي الثانية تقابل الأحداثُ الدامية بصَمتِ القبور، لأن فيها شيئا من رائحة الإسلام المتَمَلْمِل من وطْآتِ الخسْفِ والاستبداد.
والديمقراطية التي تُفرز المنادين بالمحافظة على هُويّة الشعوب الإسلامية تُعتبر ديمقراطية تفرز أعداء الديمقراطية، واستمرارُ حالة الطوارئ لمدة عقود في بعض البلاد الإسلامية يُعتبر علاجاً وتجفيفا لمنابع الإرهاب لا يستحق الشجب والاستنكار، واحتلالُ الأوطان الإسلامية بمبررات واهية يعتبر إصلاحاً وتمديناً وتحديثاً وتحضيراً.. إلى غير ذلك من المكاييل والموازين التي لا تستقيم مع منطق، ولا تساعِد على استِتْباب أمْنٍ محلي أو دولي في عالم يموج بالتفاعلاتِ والإمكاناتِ القادرةِ على تكسير الظهر، وإحْداثِ الهزات المُخلخلة للسلام المحلي والعالمي.
ويزيد الأمْرَ فظاعةً أن يُوجَد من بني جلدتنا من ينعَق بنفس النعيق، وينهقَ بنفْس النهيق فيبرِّرون السجْن، والظلم، والتعذيب، والقتل، وانتهاك الحرمات لمن لا يقاسِمُهم هُويّة الحداثة المُدّعاة، وهويّة العلمانية المزوّرة، وهوية التقدمية المكذوبة.. كأن المسلمين ليسوا من طينة الإنسان الذي يستحق التكريم، اعتقد ما اعتقد، واختار لنفسه ما اختار من المذاهب السياسية، فكونُه مسلما لا حق له حتى في الاحتجاج والدفاع عن حقه والجهر برأيه.
أسطوانة عرفها الشرق في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان المغرب في مأمَنٍ منها بفضل الله تعالى إلى حين إتاحة الفرصة الزمنية لبعض بقاياالمصابين بعَدْوى المعاداة للدين، واعتباره أفيُون الشعوب، حيث اقتعدوا بعض المنابر الإعلامية، فصاروا يتقيأون ما قاءَهُ التاريخ منذ أكثر من عَقْديْن من الزمن، فزهَق الباطل ذليلا خاسئا مدحوراً، وظهر نور الحق ساطعاً باهراً منصوراً. فهل بالتقليد الأعمى للذين يأكلون لحومنا ويرمون لنا أعظمنا -نتلهَّى بها- سنتقدم، ونتحضر، ونلحق بركب الحداثيين الذين عرفوا كيف يُقنِّنون شؤون دنياهم لأنفسهم وحدَهم؟!.
إنّ ركبْنا الحضاري ينطلق من الآخرة للدنيا وليس العكس، لأن دنيانا تصلح بإصلاح أخرانا، ويكفي الإنسان دليلا على هذا أن المسلمين -عندما تلفوا عن الآخرة- جرَّبُوا مختلف الأرصِدة الإنسانية ماضيا وحاضراً فما أفلحوا، وجرَّبُوا حضارة الآخرة مرة واحدة في التاريخ القصير فغيّروا وجه الإنسانية، ويُنتظر منهم الان أن يعيدوها جذعة، ويبدأوا منطلق رسالتهم من الآخرة، ليعرفوا الحق حقا، والعدل عدلا، والصدق صدقا، والمبدأ مبدأ، والغاية غاية، والوسيلة وسيلة، والتكريم الإنساني تكريماً، والنور نوراً والظلام ظلاماً.
فهل يثوبُ كبار قومنا إلى رشدهم ويُقْلعوا عن سياسة المصالح، ويبدأوا بتوفيق الله تعالى سياسة المبادئ التي لا تفرق بين إنسان وإنسان، ولا تزن بمختلف الأوزان؟!