ما علاقة السيرة النبوية باستنباط الأحكام؟ للجواب أقول: السيرة النبوية هي نصوص من الحديث النبوي احتفت بقرائن زمنية أو أحداث واقعية تضيء المعاني وتجليها. إذا وصلنا إلى هذه النتيجة ظهر لنا جليا أن السيرة النبوية تدخل في صميم عملية الاستنباط، و لكن -في حدود اطلاعي- بالمسمى لا بالاسم؛ فقد اعتمدها العلماء تحت عناوين متعددة، منها: أسباب النزول، أسباب الورود، السياق المقامي، القرائن الحالية، جمع الروايات المتعلقة بالباب، فقه واقع النص…، و كلها عندي من صميم السيرة النبوية وإن لم يطلق عليها هذا اللقب، وقد جلبت في البحث عدة نصوص تبين احتفال العلماء بأحداث الزمن النبوي من أجل إضاءة النص فهما له وتنزيلا لأحكامه، أمثل بنص للإمام الغزالي: “قال الغزالي (ت 505 هـ): أثناء كلامه عن القرائن: “والقرينة إما لفظ مكشوف.. و ما إحالة على دليل العقل.. وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس، أو من جنس آخر حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد أو توجب ظنا.” إذا تبينت علاقة السيرة النبوية بالاستنباط فما وجه دخول تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم في الموضوع.
لا شك أن أنواع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم داخلة دخولا أصيلا في السيرة النبوية، فهي إما تصرفات تبليغية تبين صفات الرسول المبلغ، وإما تصرفات جبلية عادية تبين صفات الرسول الإنسان، وإما اجتهادات في البت في المنازعات و النظر في البينات والإقرارات والأمارات تبين صفات الرسول القاضي، أو مواجهة لقضايا التسيير اليومي لقضايا الأمة سلما وحربا تبين صفات الرسول الإمام… من هنا نجد أن طائفة من العلماء تنبهوا لأهمية التمييز بين أنواع التصرفات النبوية ونبهوا على ذلك في كتاباتهم النظرية، وطائفة أخرى، باشروا الاستنباط على ضوئها أثناء تطبيقاتهم العملية في شرح النصوص الحديثية. فأول من قرر في الموضوع حسب علمي هو الإمام ابن قتيبة (ت 276 هـ) الذي قسم السنن إلى ثلاثة أقسام: سنة هي وحي لا تقبل أي تدخل بشري، وسنة أباح الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها، فله أن يترخص فيها لمن يشاء على حسب العلة و العذر، و سنة سنها تأديبا من غير إلزام.
أما القاضي عياض فقد ميز في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) بين التشريعي وغير التشريعي انطلاقا من حديث تأبير النخل، و نبه إلى طبيعة تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقضاء، مبينا اعتماده على البينات الواقعية التي يمكن ألا تكون خادمة للحقيقة، رغم إمكانية إطلاعه على الغيبِ.وفي مواضع مختلفة ومتفرقة من كتابه يذكر مجموعة من تصرفاته صلى الله عليه وسلم التي لا تفيد الإلزام التشريعي، منها: حالة الصلح بين الناس، وحالة الكلام بالمعاريض، و كلامه طلبا للمشورة، و كلامه حال شدة إشفاقه على أمته و تحذيرهم من تعدي حدود الله، وكلامه صلى الله عليه وسلم بما جرت به عادة العرب دون قصد لظاهره.
ثم أتى القرافي فميز داخل مجال السنة التشريعية بين الفتوى باعتبارها إخبارا عن حكم الله عز وجل، تقتضي الدوام والعموم في حق المكلفين؛ وبين القضاء باعتباره فصلا بين المتخاصمين بما توافر من الحجج والبينات والأمارات، وهذه لا عموم فيها إلا بحكم قاضي الوقت؛ وبين الإمامة باعتبارها سياسة تساس بها الرعية بحسب المصلحة الواقعة والمتوقعة، وهذه لا عموم فيها أيضا، لأنها متوقفة على إذن الإمام. وينبه القرافي إلى أن العلماء متفقون على تنوع تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم واختلاف النتائج التشريعية، إلا أنهم أثناء نظرهم التطبيقي يختلفون في حديث معين هل ينتمي لهذا المجال أو ذاك.
د. بنعمر لخصاصي أكاديمية تازة