المنهج المقترح لكتابة السيرة:
يمكننا أن نلخص هذا المنهج في النقاط التالية:
1- الجمع بين مرويات السيرة عند المؤرخين وعند المحدثين إذا توافرت الصحة أو القبول في كل منهما، بشرط ألا يكون هناك تعارض بينهما يحول دون الجمع بينهما؛ ومثال ذلك إسلام سلمان الفارسي، فقد ساق البخاري إسلامه في باب “إسلام سلمان الفارسي”، من “كتاب مناقب الأنصار”، وأخرج تحته ثلاثة أحاديث، منها الحديثان التاليان: قال سلمان أنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب،(2) وقال: أنا من رَامَ هُرْمُزَ.(3) وكان قد علق في كتاب البيوع: باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه n علق قول النبي لسلمان “كاتب” ثم قال البخاري: وكان حراً فظلموه وباعوه.(4) وقد روى ابن إسحاق قصة إسلام سلمان مطولة؛(5) وقد قال ابن حجر: “ووجه تعلق هذه الأحاديث بإسلام سلمان التي ساقها البخاري، الإشارة إلى أن الأحاديث التي وردت في سياق قصته، ما هي على شرط البخاري في الصحيح، وإن كان إسناد بعضها صالحاً “.(6) إذن، يمكن الجمع بين هذه الروايات؛ فقد أفادت رواية البخاري عدد الذين ملكوا سلمان وكان لهم عبداً، على حين جاءت رواية ابن إسحاق تفصل كيف كان انتقاله بين من ملكوا رقبته حتى منّ الله عليه بالإسلام ثم العتق. ومن هذا القبيل، غزوة الحديبية عند ابن إسحاق(7) وعند البخاري في صحيحه،(8) فهي واحدة عندهما إلا بعض الاختلافات البسيطة بينهما. قال ابن كثير بعد أن ساق رواية ابن إسحاق أولاً: “هذا سياق محمد بن إسحاق لهذه القصة. وفي سياق البخاري مخالفة في بعض الأماكن لهذا السياق.(9) وكذلك الأمر في قصة الإفك؛ فقد ساقه ابن كثير بسياق محمد بن إسحاق، ثم قال: “وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن الزهري، وهذا السياق فيه فوائد جمة”.(10)
2- إذا لم يكن هناك مجال للجمع بين المرويات عند المحدثين وعند المؤرخين، قدمت مرويات المحدثين إذا توافر فيها الصحة أو القبول؛ ومثال ذلك: تقديم ما في الصحيحين من موت أبي طالب على الكفر، على ما في سيرة ابن إسحاق من أنه نطق بكلمة التوحيد قبل موته؛ ومثال ذلك أيضا،ً تقديم ما ورد في الصحيحين أن عدد المسلمين في غزوة الحديبية ألف وأربعمائة أو أكثر(11) على ما ورد عند ابن إسحاق أنهم سبعمائة.(12)
3- وأما الأحاديث الضعيفة المتعلقة بالسيرة، سواء أكانت عند المحدثين أو المؤرخين، فإنه يمكن أن نتعامل معها وفق ما يلي:
أ- إذا كان الحديث غير شديد الضعف، ولا يتعلق به حكم شرعي، ويسد فجوة من فجوات السيرة لا يسدها حديث غيره، فإننا نذكره مع بيان ضعفه. مثال ذلك: خبر إرضاع حليمة السعدية النبي.(13) قال ابن كثير: “وهذا الحديث قد روي من طرق أخرى؛ وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي”.(14) وقد اشترطت سابقا بأنه يسد فجوة من مراحل السيرة، وذلك تنبيهاً على ما هو موجود في كتب السيرة “من الإطناب إلى درجة الحشو في بعض الأحيان nكما يقول الأستاذ محمد عبد الله السمان- وبخاصة في الفترة التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وما أشير فيها إلى الإرهاصات التي نبأت بمولده أو بعثته، والخوارق التي صاحبته منذ أن حملت به أمه ثم ولدته…”.(15) ومن ثم، كان هذا الشرط يستبعد الروايات الضعيفة التي لا تسد فجوة في السيرة النبوية، فلا داعي للإكثار منها، والأولى عدم ذكرها؛ فإن كان لابد، فمع التنصيص على ضعفها -إن كانت ضعيفة- مع بيان درجة ضعفها كذلك.
ب- إذا كان الحديث الضعيف قد أجمع عليه أهل المغازي الأوائل – وهم طليعة المؤرخين- ولا يعارض حديثاً صحيحاً أو حسنا،ً أو يعارضه في الظاهر، لكن قد يجمع بينهما جمعاً مقبولاً؛ فإنني أرى أن يذكر مع ذكر صفاته السابقة والتنصيص عليها. ويذهب هذا المذهب الدكتور فاروق حمادة، فيقول: “إذا جاء خبر من الأخبار في مصادر السيرة النبوية، وخاصة كتب المغازي والسير بلا إسناد؛ أو كانت أسانيده ضعيفة وخاصة من جهة الإرسال، ولم يأتِ في نص صحيح موثق ما يعارضه، فالذي أراه أن هذا الإجماع والاتفاق ينهض بهذا الخبر ويقويه، ويجعلنا نركن إليه. وقد تكرر قولهم في السير والمغازي: أجمعوا على هذا واتفقوا عليه”.(16)
ج- قد يكون الحديث ضعيفاً ويقوم مقامه حديث صحيح، لكن في الضعيف زيادة كتفصيل مجمل، أو توضيح مبهم، أو تحديد تاريخ، أو نحو ذلك؛ فيذكر هذا الحديث الضعيف من هذه الناحية، مع التنصيص على ضعفه وبيان درجته في الضعف، لكي يكون مسوقاً من باب الاستئناس به. وقد فعل ذلك جماعة من المصنفين في السيرة كالبيهقي في الدلائل، وابن كثير في البداية والنهاية؛ وكذلك عمل الحافظ ابن حجر في فتح الباري. وهذا المسلك مشهور معروف منتشر في الكتب، لا يحتاج إلى ضرب أمثلة.
د- أما الأحاديث الشديدة الضعف والواهية والمنكرة، فلا تذكر مطلقاً. فإن كان ولا بد، فتذكر في أضيق الحدود مع النص على درجتها وبيان الغرض من سوقها وذكرها.
هـ- أما الأخبار الموضوعة فلا يجوز ذكرها أبداً، ومن أمثلة هذه الموضوعات ما ذكرته كتب الدلائل(17) من تكليم النبي حماراً أسماه يعفوراً ملكه في فتح خيبر؛ قال ابن الجوزي: “لعن الله واضعه، فإنه لم يقصد إلا القدح في دين الإسلام،”(18) وقال الذهبي: “خبر باطل”.(19)
د. عاشوري قمعون
جامعة الوادي- الجزائر.
—–
(2) ينظر: صحيح البخاري 3946.
(3)ينظر: صحيح البخاري 3947.
(4) هذا التعليق فوق الحديث 2217.
(5) ينظر: سيرة ابن هشام ص 121-126.
(6) ينظر: فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج7، لابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي،ط. الريان للتراث، القاهرة، ط.2، 1407هـ/1987، ص325.
(7) ينظر: سيرة ابن هشام 603-610.
(8) ينظر: صحيح البخاري (2731-2732).
(9) ينظر: البداية والنهاية ج6، لابن كثير، ص220.
(10) ينظر: المصدر السابق ج6 ص199.
(11) ينظر: صحيح البخاري، باب غزوة الحديبية من كتاب المغازي، الأحاديث 4150-4158 ؛ وصحيح مسلم، الأحاديث 1856-1858.
(12) ينظر: سيرة ابن هشام ص 603.
(13) ينظر: السيرة عند ابن إسحاق، لسليمان بن حمد العودة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، ط.1، 1414هـ/1993م، ص 26 n 28 ؛ وينظر: البداية والنهاية ج3، لابن كثير، ص408-412. (14) البداية والنهاية ج3 ص412.
(15) ينظر: تحفظات على كتب السيرة النبوية القديمة، محمد عبد الله السمان، ضمن الكتاب التذكاري للمؤتمر العالمي الرابع للسيرة والسنة النبوية الشريفة، صفر 1406هـ/ نوفمبر 1985م، ص 435.
(16) ينظر: مصادر السيرة النبوية وتقويمها، لفاروق حمادة، دار القلم، دمشق، ط.1، 1425هـ/2004م، ص 123.
(17) أخرجه أبو نعيم في الدلائل 288 ؛ وذكر في الشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1، للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، ص314 ؛ وينظر: البداية والنهاية ج 8، لابن كثير ص383.
(18) ينظر: الموضوعات من الأحاديث المرفوعات ج1، لابن الجوزي، عبد الرحمن بن علي، تحقيق د. نور الدين بن شكري، أضواء السلف، الرياض، ط.1، 1418هـ/1997م، ص293-294.
(19) ينظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال ج4، للذهبي، تحقيق علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت، ص34 ؛ وينظر: البداية والنهاية ج8، لابن كثير ص383 ؛ والفصول في اختصار سيرة الرسول، لابن كثير، تحقيق محمد العيد الخطراوي ومحيي الدين مستو، مؤسسة علوم القرآن، دمشق، بيروت، ط.1، 1399هـ/1400م، ص 259.