مع كتاب الله عز وجل – في مقام التلقي لمنهج التعامل الدعوي مع جحود الكفار


قال الله جلت حكمته : {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقّبوا في البلاد هل من محيص. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو اًلقى السمع وهو شهيد}
يركز هذا المقطع الأخير من السورة، على الخلاصات المنهجية، التي ترسم طريقة التعامل الدعوي مع هؤلاء الكفرة الفجرة، الذين جحدوا حقائق الإيمان، وأنكروا البعث والنشور، وانتصبوا لحرب عقيدة الإسلام. وتُعَلِّم المؤمن الداعية ما ينبغي أن يتسلح به من الثقة بالله، وترشده إلى زاد الذّكر والتسبيح والصلاة، والاعتصام بالله وبكتابه المبين؛ كلما تعرض لسخرية الساخرين، ومقولات الملحدين المستهزئين! ومن ثم يحذر الله عز وجل الكفرة المخاطبين بهذا القرآن إلى يوم القيامة، ويلقي إليهم نذارة التذكير بأيام الله، وبسنته في الذين خلوا من قبلهم من الكفار، فيقول تعالى : {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقّبوا في البلاد هل من محيص.

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد}وهذا خطاب عجيب مزدوج القصد، فيه من النذارة والتحذير للكفار، بقدر ما فيه من التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكل داعية إلى الخير من أمته بعده، والتثبيت على عقيدة الثقة العالية بالله.
وقد صُدر التعبير بعبارة “كم” الخبرية الدالة على التكثير؛ تنبيها من الجبار عز وجل لطغاة قريش -زمن النبوة- ولكل الأمم الطاغية بعدها إلى قيام الساعة؛ إلى كثرة القرون الهالكة في الأزمنة السابقة لهم؛ بسبب تعرضها لنقمة الله وغضبه الشديد، والعياذ بالله! ومعنى القُرون جمع قرْن، وهو : الجيل الواحد من الناس، أو الأمة الواحدة من البشر. وبهذا المعنى يرِدُ لفظ “القرْنِ” في القرآن مطلقاً، كما قال تعالى في سورة الأنعام : {فأهلكنهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين}(الأنعام : 6)، وأما دلالته على المائة عام فإنما هو اصطلاح حادث. فالقرون البائدة ممن أهلك الله عز وجل كعاد وثمود وأضرابهما، كانت أمما قوية جبارة، ذات طغيان وبطش شديد؛ بما أمدها الله به من قوة جبارة في أبدانها، ووفرة في الخيرات والنعم من الأموال والأنعام والحرث! ومكن الله لها من شدة البطش والجبروت والثراء ما لم يمكِّن لقريش وأضرابها، وأوتي رجالها من أسباب القوة ما جعلهم يُنقّبون في البلاد تنقيبا! والتنقيب من النّقب وهو: الثقب في الجبل ونحوه، كما يدل على معنى الحفر والبحث. والمقصود أنهم ضربوا في الأرض ورحلوا إلى كل مكان؛ بحثا على الثروة وطمعاً في الحصول على ما يكون به الخلود في الأرض، وخرطوا لذلك الطرق والنقوب وهي : المسالك الجبلية الوعرة، والبيوت المنحوتة فيها، كما قال تعالى عن ثمود : {واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الارض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا ءالاء الله ولا تعثوا في الارض مفسدين}(الأعراف : 73). فكل هذه التحصينات والتنقيبات إنما هي محاولات بشرية مغرورة؛ رغبة في الإفلات من النوائب والزلازل والكوارث والأعاصير التي تواتر في الناس أنها أهلكت هذه الأمة أو تلك، وأبادت هذا القرن أو ذاك! وينسى الطغاة الجهلة أنما هي نقمة الله الواحد القهار، وأنه عز وجل لا يستعصي عليه حصن ولا نقب! فالأرض كلها قبضته والسماوات مطويات بيمينه؛ ولذلك عبر عن فعلهم الفاشل اليائس بقوله تعالى : {فنقّبوا في البلاد هل من محيص}؟ والمحيص : المفرُّ والملجأ والمهْرب، من حاص يحيصُ : إذا حاد وانحرف عن الشيء حذراً منه وخوفا. ولقد حاولت البشرية بشتى أجناسها وحضاراتها، منذ أقدم العصور وما تزال، تبحث عن محيص من الموت، ومهرب من الفناء؛ لكن المفاجأة البئيسة أنها بقدر ما كانت تسرع خطاها في طريق الفرار؛ كانت تسيخ بها أقدامها في جرف الهلاك، حتى تلقى فيه حتفها!.. ولذلك صِيغ التعبير هنا عن قصد الفرار بأسلوب الاستفهام المفيد للنفي : {هل من محيص}؟ للدلالة على الفشل والخسران، واليأس من الوصول إلى المراد! فلا نجاة من قدر الله إذا وقع، ولا فرار من عذابه إذا أخذ قوماً بذنوبهم! {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب اَو اَلقى السمع وهو شهيد}! والذِّكْرى هي بمعنى العِبْرة والموعظة. وإن تدبر تاريخ الشعوب البائدة، ومصارع الأمم الجائرة، ومهالك الطغاة في كل زمان ومكان، وفيما تجري به أحداث الزمان الآن؛ لهو ذكرى لمن كان له قلب حي سليم! ولمن تلقّى آيات هذه الحقائق وأخبارها بإنصات حديد وانتباه شديد. فإلقاء السمع كناية عن الإنصات الشامل الكامل، والتلقي الوجداني العالي للحقيقة؛ ولذلك قال بعد : {وهو شهيد}، أي شاهد القلب، حاضر العقل، يقظ الشعور، غير شارد ولا غائب في متاهات البلادة والغفلة الثقيلة! ويستمر الرحمن عز وجل في تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم وكل داعية سار على نهجه، فيشير تعالى إلى أنه قادر على جميع خلقه، غالب على أمره، لا يعجزه شيء، ولا يتعبه خلق ولا تدبير، وأنه كلما أراد أخذ قوم بطغيانهم إلا وأخذهم أخذ عزيز مقتدر! وأنه متى أراد إفناء هذه الحياة الدنيا وحشر الناس ليوم الحساب إلا وكان ذلك في أقل من لمح البصر! إنه الله رب العالمين، الخالق لكل شيء، القيوم على كل شيء، وهو على كل شيء قدير. كل ذلك يشير إليه ههنا قوله عز وجل : {ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب}! فالذي خلق هذا العالم الكوني الرهيب، بجميع تجلياته المادية، وأعماقة الغيبية، بما هو عليه من تقدير موزون، ونظام محكم بديع، من أطباق السماوات إلى عجائب الأرض، خلق كل ذلك في ستة أيام، وما مسّه من لغوب، أي ما أصابه تعب ولا عياء، سبحانه، سبحانه! ذلك الرب العظيم هو الذي يكلم البشرية الآن بهذا القرآن، وينذرها بحقيقة البعث والنشور، وحشر العباد ليوم الحساب! والخالق للشيء قادر على إعادته، بلْه إفناءه وإبادته! وهذا شبيه بما ورد في قوله تعالى في سورة الأحقاف : {أولم يروا ان الله الذي خلق السموات والارض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يُحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير}(الأحقاف : 33).

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

1- وعليه يحمل أيضا لفظ “القرن” في قول النبي صلى الله عليه وسلم :
>خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء من بعدهم قوم تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم!<(متفق عليه).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>