مع كتاب الله عز وجل – الاستمداد ا لروحي وتجديد زاد التلقي عن الله تعالى


قال الله جلت حكمته : {فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبّحه واِدبار السجود. واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير. يوم تشقّق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير. نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}
السياق كله إذن سياق تسلية وتأنيس، وتثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه على عقيدة الثقة العالية بالله؛ ثم تلقينه منهاج التعامل مع دجل الملاحدة، وأراجيف الكفرة الفجرة، وطريقة مواجهة الحصار الإعلامي الباغي، والحرب النفسية والكلامية، التي تبوء بوزرها دوائر الشيطان المظلمة، والتي تروم إرباك مسيرة الدعوة إلى الله، ومحاولة إطفاء نورها بكل الوسائل! فيلتفت الخطاب القرآني برفقٍ وحنوّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويخاطبه بكلماتٍ منهاجية عميقة المغزى، مُكْتنِزة بالحكمة، يخاطبه مصبّرا ومعلّما : {فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبّحه وإدبار السجود. واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير. يوم تشقّق الارض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير. نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} وبذلك كان ختام السورة. وهو ختام يربط نهاية السورة بأولها ويذكر بقضيتها الكبرى، قضية البعث التي جحدها الجاحدون، والتي كانت أول ما أثير عند مفتتح السورة : {ق والقرءان المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب. أءذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد} كذلك كانت مقدمة السورة وفاتحتها، ثم جاء وسط السورة وعرضها؛ لتفصيل البيان لقدرة الله على البعث، وعرض مشاهد لمراحله وصوره ومآلاته، ثم انتهت السورة إلى هذه المعالم المنهجية التي تبين للمؤمن كيفية التعامل مع مقولات الكافرين المذكورة ابتداءً، فقال تعالى : {فاصبر على ما يقولون..} إلى آخر السورة.
وإنه لختام مُكتنِز عظيم! جمع فيه الرحمن جل ثناؤه للمؤمن الداعية زاداً تربوياً ومسلكاً منهاجيا، كامل الخطوات واضح الغايات، لا يضل الآخذ به في دعوته، ولا ينهار ولا ينهزم أبداً! فأول زاد الطريق معرفة بالله جل جلاله، والاطمئنان إلى قدرته وعظمة سلطانه، وثاني زاد صبرٌ جميل على أراجيف الدجاجلة والمجرمين، مما يبثونه حول الدعوة ورجالها، ومما يحاولون به تشيوه عقيدة الإسلام أو تمييع حقائقها! وإنهم ليقولون ويقولون! ولقولهم اليوم أثر خطير؛ لما لوسائل الإعلام الحديثة من قوة سحرية على قلب الحقائق، وتدمير حصون القلوب والعقول! فالصبر على ذلك كله والثبات في نفس الوقت على أداء الرسالة كفيل بنصرة الحق بإذن الله! ولا ينبغي لمؤمن أن تثبطه مقولات المبطلين، وترّهات الدجاجلة والشياطين! فإنما هم يقولون ما يقولون؛ كي تتوقف أنت عن نشر دعوة الخير؛ {فاصبر على ما يقولون…}! وامض في طريقك ثابتا، لا تلتفت إليهم أبداً، واشتغل بدعوة القرآن! فإنك مستند إلى رب عظيم وملك كريم! وتزود للمعركة ولطول الطريق من التسبيح بحمد الرب العظيم! {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبّحه وإدبار السجود}!.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالتسبيح هنا : الصلاة. وتسمى الصلاة تسبيحاً لاشتمالها على حقيقة التسبيح لفظاً ومعنًى. فالركوع والسجود وسائر أفعال الصلاة، مدارها على تحقيق معنى الخضوع والخشوع، والتذلل بين يدي الله رب العالمين؛ تنزيها له تعالى وتقديساً وحمداً. وذلك معنى التسبيح بحمد الله. وملابسة التسبيح للحمد ههنا -كما هو في كثير من الآيات والأذكار النبوية- دالٌّ على أن المطلوب هو الجمع بين حقيقة التنزيه لله تسبيحا، وبين عبارات الشكر والثناء عليه تعالى حمداً. يجمع المؤمن ذلك كله على مستوى العبارات والمعاني والشعور؛ لأن التسبيح والحمد معنيان متكاملان، كلاهما يؤول إلى تمجيد الله رب العالمين، والدخول تحت طاعته وسلطانه. فنحن نسبحه تعالى وننزهه؛ بما هو أهله من الثناء والحمد. والتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل وإدبار السجود، شامل لكل الصلوات الخمس، وما يلحقها من نوافل وتهجد. مع إشارة تمييز لصلاتي الصبح والعصر؛ لما لهما من خصوص مذكور في السنة(1). وقوله {وإدبار السجود} محتمل لنوافل الصلوات التي تكون بُعيْد الفرائض المكتوبات، ومحتمل للتسبيحات والأذكار المسنونات، التي تكون بُعيْد الصلوات. ويجوز أن يكون كل ذلك مُراداً مقصودا. وقد قُرِئت عبارة (إدْبار) بكسر الهمزة على المصدر، من أدْبر يُدبر إذا ولّى وانتهى. كما قرئت : (أدبار) بفتحها على معنى الظرف، وهو جمع دُبُر بمعنى عقِب وخلْف. ومآل القراءتين واحد لا يختلف؛ لأن كلاّ منهما مفيد لما بعد الشيء. ومن لطائف الإشارات ههنا ربط حركة السير التعبدي إلى الله -تسبيحا وذكراً وصلاة- بحركة الفَلك الدائر السائر إلى الله، ومراعاة مواقيت مخصوصة من منازل الليل والنهار -قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن الليل…- مواقيت ذات أسرار، هي عبارة عن محطات خاصة؛ لتجديد زاد التلقي عن الله، والاستمداد الروحي من بركات التأييد والتسديد. فترى المؤمن يحيا مع الله على كل حال، يشعر بحركة الزمن الراحل شعوراً عميقا، ويرى من خلاله ساعة البعث قادمة قريبة! ولذلك قال بعدُ مباشرة : {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب. يوم يسمعون الصّيحة بالحق ذلك يوم الخروج} وهذه خطوة منهاجية أخرى من خطوات السير إلى الله، وزاد جديد في طريق مواجهة أباطيل الكفار وتشكيكاتهم… التحقق الإيماني بقيام الساعة وحقيقة البعث، تحققاً يجعل الإيمان بذلك على مقام اليقين الراسخ المكين! ولذلك عبر عنه ههنا بفعل الأمر بالاستماع لنداء الحشر، والأمر بالإنصات لنفخة البعث، والترقب لحدث القيامة الرهيب؛ وذلك للدلالة على حتمية الوقوع وعلى أنه أمر قريب وشيك الوقوع! {واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب}! والمنادي هو الملك النافخ في الصور، وسينطلق نداؤه بقوة من مكانٍ قريب حول الأرض؛ حتى ليجدن كل إنسان كأنما هذا النفخ الرهيب واقع عند شحمة أذنه! فيصعق لنفخة الصعقة، وينهض لنفخة البعث! ولا يفصل ما بين النفخة والاستجابة -في كلتا الحالين- ولا مقدار لمحة من بصر! إنه حدث آتٍ قريباً قريبا، وإن الأذن المؤمنة لتتوقع سماع النفخة في أي لحظة! وإن النفس -وهي تعيش في غمرات هذه المشاعر الإيمانية الحية -لتضطرب أنفاسُها خوفا من هول ذلك اليوم {يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج} ولكنها تسْكُن بعدُ وتلين مطمئنة إلى ذكر الله.
وتمتلئ مواجيدها بزاد الثقة العالية بالله. وتلتفت إلى مشاهدة عصابات الكفر كيف يكون حالها مع ذلك اليوم الحق، {يوم يسمعون الصيحة بالحق..} الحق الذي كانوا ينكرونه ويجحدونه، ها هو ذا الآن ينطلق في أرجاء الكون، صرخةً قويةً مدويةً في كل مكان! صرخةً تصخ الآذان، وتقرع القلوب والأعصاب، فلا يبقى مخلوق إلا واهتز لها اهتزازاً! إنها صيحة الحق ونفخة البعث، وعْدُ الله العظيم! فلا ترى بشراً إلا وهو ينهض من ترابه، ويخرج من قبره، فيسير سعياً إلى ميعاد ربه! {ذلك يوم الخروج}! ويُعزِّزُ هذا المشهد الرهيب ببيانٍ من الرحمن، أنما هو وحده الفاعل في كل ذلك، إحياءً وإماتةً وحشراً : {إنّا نحن نحيي ونُميت وإلينا المصير}، هكذا بهذا التعبير المؤكد الثابت الراسخ : {إنا نحن..}.. وتلك صفات من أهم صفات الربوبية، أنكرها الجاحدون فكفروا كفراً شنيعاً، وبذلك استحقوا نقمة الله وعذابه الشديد! فالله جل جلاله هو الخالق لكل شيء، المحيي لما خلق، وهو المميت لمن يريد، الوارث لكل شيء، وهو المعيد لما أفنى، الباعث لكل نفس، سبحانه كل شيء منه يبدأ، وكل شيء إليه يعود، يحيي ويميت وإليه المصير. فلا شيء إلا وهو يصير إلى ربه، ويؤوب إلى ميعاده المحتوم، وإنه لا حول لمخلوق ولا قوة له إلا بالله. كما قال تعالى في سورة مريم : {إن كل من في السماوات والارض إلا آتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدّهم عَدّا. وكلهم ءاتيه يوم القيامة فردا}(مريم : 93- 95).

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>