عن أبي ظبية ((أن عمرو بن العاص قال يوما – وقام رجل فأكثر القول – فقال عمرو: لو قصد في قوله لكان خيرا له، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد رأيت – أو أمرت – أن أتجــوز في القول، فإن الجواز هو خير)(1) هذا الحديث عمدة الأدباء في التنظير لـ((بلاغة الإيجاز)، وفيه أمور: أمران منها في القول النبوي، وهما: التجوز في القول، وخيرية الجواز. ومثلهما في سياق التحديث، وهما: إكثار القول، والقصد فيه. والناظم بين الأمور الأربعة هو خيرية الإيجاز، وقد عُبر عنه في كلام النبي صلى الله عليه وسلم بالتجوُّز والجواز، وفي كلام عمرو بن العاص بالقصد، والمصطلحات الثلاثة كلها وردت في مقابل إكثار رجلٍ القولَ، وفي بيان مخالفته لما هو خيْر. والملاحظ أن الراوي شك فيما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: ((رأيت) أو ((أمرت)، وليس أمامنا بسبب هذا الشك إلا أن نأخذ بالأمر الوسط بينهما وهو أن إيجاز القول مما ينبغي الاقتداء فيه بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والتجوز في القول: الإسراع والتخفيف والتقليل فيه، من قولهم ((تجوز في صلاته أي خفف)(2).
والجواز ((الاقتصار على قدر الكفاية)(3).
والقصد ((استقامة الطريق)(4)،
وتجنب الإفراط والتفريط(5).
والأصل اللغوي للتجوز والجواز ((جوز)، وجَوْزُ كل شيء وسطه، فالتجوز -بناء على هذا- التزام الوسط في الأمور، أي: دون تفريط أو إفراط. وللمادة ((جوز) علاقة بالطريق أيضا، وهو واضح في القصد كما رأينا، والجوْز ((القطع والسير)(6)، ويبنى عليه أن التجوز في القول تقصير المسافة بين المتكلم ومقصوده، بحيث تكون الطريق سالكة ومختصرة، فيبلغ المخاطبُ المرادَ دون كلفة أو حاجز. كما أن لفظ ((تجوَّز) يستعمل أيضا بمعنى تجاوز، ومنه قولهم: اللهم تجوّز/تجاوز عني، وهو طلب العفو(7).
والجواز كذلك السماحة والتساهل(8). ويفيد هذا أن للتجوز والجواز في القول واجهتين:
أ- أخلاقية تقتضي أن يكون الكلام نظيفا سمحا، فليست الفظاظة والغلظة في القول من الجواز في شيء.
ب- وشكلية تقتضي تجنب التكلف في الكلام، سواء أتعلق الأمر بالتقعر والإغراب والإيحاش، أم بالإطناب، فكلاهما مخالف للسماحة في القول. وقد بدت لي في الحديث النبوي ثلاث نكت:
> النكتة الأولى هي أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن التجوز والجواز قد جمع بين القول والفعل: أما القول فهو الذي رأيناه آنفا، وخلاصته أن اختياره صلى الله عليه وسلم التجوز مبني على سبب هو أن الجواز خير. وأما الفعل فهو أنه صلى الله عليه وسلم تجوز في حديثه عن التجوز والجواز، فكان في قوله تجوزا وجوازا، إذ مع أنه لم يتجاوز عشرة ألفاظ، إلا أنه قد جمع فيها بين ثلاثة أشياء هي كل ما يقتضيه المقام:
- الحض على التجوز.
- بيان سبب ذلك الحض.
- بيان فضل التجوز والجواز.
> والنكتة الثانية هي أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ((التجوز) و((الجواز)، ولكنه فرق بينهما، إذ لما تحدث عن نفسه استعمل ((التجوز)، ولما تحدث عن صفة القول استعمل ((الجواز)، فالأول مرتبط بالقائل، أما الثاني فبالمقول، وذلك يفيد أن التجوز إرادة القائل للجواز في القول وقصده إياه، ولذلك استعمله بصيغة الفعل الدالة على الإنجاز.
> أما النكتة الثالثة فهي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خيرية الجواز مطلقة، ولذلك يصح أن تُفهم من زاوية المتكلم والمخاطب والخطاب نفسه: أما من زاوية المتكلم فالجواز خيْر له؛ لأنه يجنّبه مجهودا إضافيا، ويضمن له الإبلاغ دون حواجز. وأما من زاوية المخاطب فالجواز خيْر له؛ لأنه يجنّبه بذْل جُهد إضافي ليَفهم مقصود المتكلم. وأما من زاوية الخطاب نفسه فالجواز خيْر له؛ لأنه يضمن له سرعة الإنتاج والوصول، ويجنّبه الحشو والإطناب مما يثقله ويحول دون بلوغ مقصوده وتداوله.
د. الحسين زروق
————
1- صحيح سنن أبي داود، حديث رقم 5008، كتاب الأدب، باب ما جاء في المتشدق… قال الألباني: ((حسن الإسناد).
2- عون المعبود شرح سنن أبي داود، 13/239، والنهاية في غريب الحديث والأثر، 1/315، مادة ((جوز).
3- عون المعبود، 13/239.
4- مفردات ألفاظ القرآن، ص: 672.
5- عون المعبود، 13/239.
6- النهاية في غريب الحديث والأثر، 1/315، مادة ((جوز).
7- لسان العرب، 5/328، مادة ((جوز).
8- لسان العرب، 5/328، مادة ((جوز).