من الأخلاق التي تحتاجها سفينة المجتمع وهي تمخر عباب الحياة، لأجل إبحارها الآمن، خلق حمل الهم لها، ومحبة الخير والصلاح لأهلها، وهذا يعني أن يتسلح كل فرد من أفرادها، وكل هيئة من هيئاتها بسلاح اليقظة، بحيث تكون هذه وهؤلاء عيونا ساهرة على الدوام، ترعى كل صغيرة وكبيرة من شؤون السفينة، كل من موقعه، أو ثغره الذي يرابط فيه، فلا ينبغي أن يبرحه أو يغفل عنه، كي لا تؤتى السفينة برمتها من قبله. إن من شأن هذا الخلق الكريم، إذا ما ترسخ في أهل السفينة، صغروا أم كبروا، أن يكون حاجزا دون تسرب جراثيم الوهن لأي مفصل من مفاصلها، أو جهاز من أجهزتها، وأن يشكل أحد المكونات الهامة والحيوية في مناعة جسمها، حتى ليوشك أن يكون ذلك المكون شبيها بعاطفة الأم الرؤوم إزاء طفلها الوحيد، والتي تجعلها على أتم استعداد لافتدائه بروحها، واحتضانه بأي ذرة من كيانها كي لا يصيبه مكروه. وفي ظل غياب هذا الخلق أو ضعفه عند أهل سفينة المجتمع، تكون هذه الأخيرة في وضع مهزوز، يجعلها عرضة لانتهاك حماها في أي لحظة من ليل أو نهار. ومعنى غياب ذلك الخلق، حضور ضده الذي هو اللامبالاة، ومعناها عدم الاكتراث لأمر السفينة وما يجري داخلها من أحوال، وما يتربص بها من مكايد ويداهمها من أخطار، فسيان عند اللامبالين أن تصل السفينة إلى بر الأمان، أو تغوص في لجج ليس لها قرار.
وإن مما يجعل هؤلاء يخلدون إلى ذلك السلوك الرديء، ويمعنون في اتخاذه شعارا وديدنا لهم في الحياة، أنهم يفصلون بين مصيرهم الخاص، ومصير من دونهم من الناس، وإن ذلك لعمري لهو عين البلاهة والخبال، فكأني بهم وهم يستمرئون سلوك اللامبالاة يعتقدون، جازمين، أنهم في منأى عن سوء العاقبة الذي يرونه محدقا بأهل السفينة أجمعين. إن تكاثر عناصر هذا الصنف من الناس على ظهر سفينة المجتمع، يمثل خرقا حقيقيا تمثل الاستهانة به أو التقليل من شأنه سقوطا في نفس الداء الوبيل، أي داء اللامبالاة، الأمر الذي ينجم عنه استفحال نزعة الاستقالة وانتشار عدواها لدى قطاع عريض من أعضاء سفينة المجتمع وشرائحها. وإذا نحن بحثنا عن أصل هذا الداء، وجدناه كامنا في انعدام الولاء لأهل السفينة، أو في ضعفه وضبابيته على أقل تقدير، ومرد هذا الأصل نفسه إلى ضعف التأطير الإيماني والتأسيس الثقافي والتربوي الباني والمستند إلى مرجعية إسلامية واضحة المعالم والأهداف، الأمر الذي يجعل السفينة مسرحا للتشرذم والانقسام، وتعدد الألوية والشعارات، ومن ثم، لأن تكون مرشحة لكل الهزات والقلاقل التي تهددها بالتفكك والانفطار. وإن من يتأمل سفينة مجتمعنا المغربي، من منطلق الولاء الصادق والانتماء العميق، يستطيع أن يقف على شرائح ممن يدمنون سلوك اللامبالاة، وتَكَوَّن لديهم اعتقاداً، جراء ذلك الإدمان، بأنهم يحسنون صنعا، ويقدمون خدمة للمجتمع، ما كان له أن يفوز بها لولا أنهم تفضلوا بها عليه.
> فمن هؤلاء من يعيشون في غيبوبة عن واقع الناس وما يعتلج فيه من بلايا ومحن، فهم لا يجشمون أنفسهم حتى مجرد الإنصات إلى ما يصدر من هؤلاء الناس من تأوهات وأنين، ولا يلبثون، إن لفتت أنظارهم إلى ذلك، أن يشيحوا بوجوههم مدبرين شامتين.
> ومن هؤلاء من يغلفون لامبالاتهم بغلاف من التعالي والاستكبار، تحت ذريعة كونهم من طينة غير الطينة التي جبل منها السواد الأعظم من أعضاء سفينة المجتمع، اعتقادا منهم بأن فهمهم للواقع هو أرقى مما يمكن ان يبلغه الغوغاء، أو البسطاء من الناس، ويتمنون لو أنهم وجدوا في سفينة أخرى غير التي هم منتسبون إليها بخيوط أو هى من خيوط العنكبوت، أو لو أنهم استفردوا بالسفينة وأهلها، ليجروها إلى حيث تأمرهم شياطينهم التي عقدوا معها صفقات رخيصة تحت جنح الظلام.
> ومن هؤلاء من يداخلهم فرح عارم وهم ينظرون إلى ألواح السفينة وهي تتصرم، وأشرعتها وهي تتمزق بفعل الرياح العاتية، ظنا منهم أن من شأن ذلك أن يسرع بوصول الفرصة التي ستمكنهم من إعادة بناء السفينة ورفع قلاعها على قواعد أمتن وأرسخ كما يتوهمون.
> ومنهم من لا يستحون من مد أيديهم لمن يتربصون جهارا نهارا بالسفينة من القراصنة الذين يرومون نهب مخزونها وممتلكاتها، واسترقاق أهلها تحت ذرائع شتى، منها تقديم الدعم وإسداء العون لمن هم خارج نطاق التحضر والمدنية.
> ومن هؤلاء فئة، وإن كانت أقل لؤما وشؤما من الفئات السالفة الذكر، لأنها تمارس اللامبالاة بوحي من الجهل والغفلة والركون للأهواء والشهوات، فإنها شريكة في تقويض أركان السفينة، أو إطالة أمد محنتها بين لجج التيارات الكاسحة والأمواج العاتية.
إن جهدا كبيرا ينبغي أن يصرف، وجهادا مريرا ينبغي أن يبذل، من أجل تطهير سفينة المجتمع من داء الاستقالة واللامبالاة، في سياق استراتيجية كبرى، تستهدف كل منحى من مناحيها وفعالية من فعالياتها، أو شريحة من شرائحها، وتفضي بها في نهاية المطاف، إلى أن تتجاوز مرحلة التذبذب والتيه، والضعف والوهن، وتدخل في السلم كافة، استجابة لقول الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة}، وقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون} وقوله صلى الله عليه وسلم : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..).
د. عبد المجيد بنمسعود