اللغة العربية لغة القرآن : مباني ومعاني(6)


الآية الثالثة من بين الآيات اللاتي تمجد اللسان العربي لكونه الأداة الخاصة بتوضيح مفاهيم القرآن الكريم هي قوله تعالى : {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}(الأحقاف : 12). وقبل الوقوف عند هذه الآية لتوضيح دلالات بعض كلماتها وعلاقاتها الكلية والجزئية بالموضوع الذي نحن بصدد معالجته “خصوصية اللسان العربي في علاقته مع القرآن، ولماذا نزل القرآن باللسان العربي؟ قبل هذا نذكّر بمضمون ختام الآية الثانية قبلها من صورة الشعراء 192- 193 وهو قوله تعالى : {وإنّه لفي زبر الاولين} ذلك أن الضمير في هذه الآية “وإنه” يعود على القرآن الكريم على الأرجح، لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره القرطبي في أحد قولين في هذه المسألة حيث قال : >وإنه لفي زبر الاولين} أي وإنّ ذكر نزوله لفي زبر الأولين، يعني الأنبياء، وقيل : أي أنّ ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأولين…<(1).

والذي يرجح الرأي الذي نتبناه من أن الضمير في هذه الآية يعود على القرآن الكريم لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمران : أولهما أن القاعدة تقول إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وقد ذكر القرآن في هذه الآية مرتين : المرة الأولى في قوله تعالى : {وإنه لتنزيل رب العالمين} والمرة الثانية قوله : {نزل به الروح الامين…} وثانيهما أي ثاني الأمرين اللذين يرجحان رأينا أن الرأي الثاني الذي يقول فيه القرطبي باحتمال عود الضمير المذكور على رسول الله صلى الله عليه وسلم حكاه بصيغة المبني للمجهول “قيل” وهو ما يسمونه صيغة للمجهول : >الجهل به أو تحقيره، بإهماله<(2). وكلا الأمرين محتمل التطبيق على رواية القرطبي في هذا السياق أي عدم إمكان عود الضمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {وإنه لفي زبر الاولين} وثمة قراءة أخرى لتأييد هذا الفهم لا يتسع لها المقام. ويستفاد من دلالة هذه الآية {وإنه لفي زبر الاولين} وما ترتب عليها من النقاش أمران : أولهما صحة اعتبار اللام في الآية قبله {لتكون من المنذرين} للصيرورة. وحرف “مِن” في نفس الآية للتبعيض. ليصير الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً من بين كل من يدخل في {زبر الاولين}. ويؤيد هذا الفهم قوله تعالى : {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك..}(فصلت : 43). الأمر الثاني الذي يستفاد من نقاش هذه الآية أن ضبط وظائف المباني يساعد على ضبط المعاني، ويحول دون التأويلات اللاتي قد لا يحتملها النص. ولا تخرج دلالة الآية (الثالثة في هذا الموضوع) التي صدرنا بها هذه المقالة عن المعنى العام لوحدة مسؤولية الرسل صلوات الله عليهم أجمعين، ومضامين الكتب المُنزّلة عليهم، ولذا صدرت بقوله تعالى : {ومن قبله كتاب موسى} أي من قبل هذا الكتاب المنزل عليك، كتاب موسى، والآية في مجملها تتضمن هذه المقارَنة بين القرآن الكريم وكتاب موسى فتصف كتاب موسى بصفتين هما الإمامة والرحمة، وتصف المشار إليه باسم الإشارة “هذا” بثلاثة أوصاف هي “مصدق” لسانا، عربيا، وهذه المقارنة هي بيت القصيد بالنسبة لما نحن بصدده، ولذا نقف عند دلالة كلمات شطري الآية : المقارن بكسر الراء (الأول) والمقارَن به بفتح الراء (الثاني) لنرى نتيجة المقارنة وذلك كما يلي : أ- {ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة} : الواو للعطف على ما سبق من المعاني الدّالة على أن المقصود هو القرآن الكريم بقوله تعالى : {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم…} وقوله : {أم يقولون افتراه…} وقوله : {قل أرايتم إن كان من عند الله وكفرتم به..}(الأحقاف : 2- 8- 10).

أما حرف “من” هنا فيحتمل أحد المعنيين أولهما أن تكون صلة زائدة لتصحيح الكلام وتقويته وهذا على فرض أن الكلام هنا أي في الآية لا يمكن أن يكو ن صحيحا بدون “من” فزيادة “من” هنا ضرورية. وثانيهما أن نعتبر الكلام صحيحا، لكنه فيه إبهام، وعليه تزاد (مِن) للتمييز، ورفع هذا الإبهام والأمران المشار إليهما واردان في هذه الآية : {ومن قبله كتاب موسى} إذ لا يتم الكلام في هذه القبلية دون تحديد الابتداء والغاية، وعليه فـ”مِنْ” تشير إلى ابتداء الزمان في هذه القبلية رغم ما في ذلك من إبهام، لنصل إلى الغاية والنهاية التي هي وقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وبناء على هذا الإبهام تكون وظيفة “مِنْ” هي التمييز أي الإشارة إلى بداية زمن موسى بتاريخ مُعين لبعثته عليه السلام، ويوضح الكفوي الأمرين بقوله : >وكل موضع لا يصح الكلام فيه بدون (مِن) فـ(مِنْ) فيه صلة زيدت لتصحيح الكلام..< وقوله : >وفي كل موضع تمّ الكلام بنفسه، ولكنه اشتمل على ضرب إبْهام فـ(مِنْ)، للتمييز…<(3).

والذي يوضح لنا الإبهام المقصود بشكل أدَق في هذه العبارة هو الكلمة الموضوعة للدلالة عليه في أصل استعمالها، وهي كلمة “قبل” فهذه الكلمة من جملة الكلمات الموضوعة للجهات الست وهي فوق، وتحت، وأمام وخلف..الخ. فهذه الكلمات تدل على جهات دون تحديد لبدايتها ونهايتها، وفي هذا يقول الكفوي >قَبْل هي في الأصل من قبيل (ألفاظ) الجهات الست الموضوعة لأمكنة مبهمة، ثم استعيرت لزمان مبهم سابق على زمان ما أضيفت هي إليه للمشابهة بيْنه وبين معناها الأصلي أعني المكان المبهم (في فوق وتحت ، وأمام وخلف..) الذي يقابل جهة المضاف إليه في الإبهام<(4). وهذا الذي أوردناه للكفوي فيما يخص مشابهة (قبل) لألفاظ الجهات الست في الإبهام نظرا لما بينهما من المشابهة يساعدنا على تصور معنى القبلية في الآية {ومن قبله كتاب موسى} أي أن كتاب موسى \ كان يشغل فترة ما قبل القرآن الكريم الذي هو الكتاب المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فالدلالة اللغوية تفيدنا أنّه ليس ثمة كتاب أنزل من عند الله يفصل بين كتاب موسى \ والكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهذا ما يمكن أن يستفاد من حرف “من” وكلمة “قبل” المضافة إلى الضمير في “قبله” والله أعلم(5). والملاحظة أن مضمون الرسالتين واحد “كتاب موسى” والكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ما تؤكده التسمية الموحدة “كتاب موسى” و”هذا الكتاب” وعن تطابق في التسمية ينشأ تطابق في المدلول : فكل منهما كتاب على وزن فِعال بكسر الفاء >وهو مصدر كتب يكتب كتابة وأصلُها الجمع، وسميت الكتابة لجمعها الحروف فاشتق الكتاب لذلك لأنه يجمع أنواعا من القصص، والآيات، والأحكام والأخبار على أوجه مخصوصة<(6).

هكذا يتضح أن المطابقة تامة في التسمية بين النوعين وفي مضمونهما العام الذي هو الجمع، فبأي شيء يمكن التفاضل بين الكتابين؟! وصف الحق سبحانه كتاب موسى الذي كان من قبل بأنّه إمام ورحمة : والإمامة التي وصف بها كتاب موسى عليه السلام يوصف بها الإنسان والكتاب على حد سواء لكن هذا الوصف يفسر باعتبار مضمون الكتاب، وسلوك الإنسان الذي يقتدي به، وعليه >فكل من ائتمّ به قوم (من الناس في مجال معين) فهو إمام لهم، وقد يطلق على الكتاب كما في قوله تعالى : {إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين}(يس : 12). وهذا ما نص عليه الكفوي بقوله : >وقال بعضهم : الإمام من يؤتم به، أي يقتدى سواء كان إنسانا يقتدى بقوله وفعله… أو كتاباً، أو غيرهما<(7). هذا بالنسبة لكلمة “إمام” أمّا الرحمة فهي بالنسبة للإنسان حالة وجدانية تعرض غالباً لمن به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان (للآخرين).. أمّا بالنسبة للحق سبحانه فتعني >إنعامه على عباده، فرحمة الله مجاز عن نفس الإنعام، كما أن غضبه مجاز عن إرادة الانتقام….<(8).

ويستنتج مما سبق شرحه بخصوص “الإمام” و”الرحمة” أن كتاب موسى إمام فيما تضمنه من الأحكام والتشريعات الصادرة عن الحق سبحانه وما تضمنه هذا الكتاب من توجيهات أخلاقية، وقيم إنسانية هي رحمة منه تعالى بمعنى نِعَمُة المهداة إلى عبادة. وبعد هذا ينتقل الوصف إلى الشطر الثاني من الآية لإبراز معالم المقارنة التي قد تبرز أوصاف المفاضلة، وذلك في قوله تعالى {وهذا كتاب مصدق..} وهو ما سنفصل القول فيه في الحلقة المقبلة بإذن الله تعالى.

-يتبع-

د. الـحـسـيـن گـنـوان

 

—-

1- الجامع لأحكام القرآن 138/13.

2- النحو الوافي 96/2.

3- الكفوي 831.

4- الكفوي : 736- 737.

5- هذا الفهم إذا اعتمدنا اللغة وحدها وإلا فهناك نصوص قطعية وقرائن أخرى تدل على وجود كتاب الإنجيل بين الكتابين، لذلك فهذا الاستنتاج يثير أكثر من سؤال، نرجو أن يثير اهتمام القراء.

6- البـــرهان فـي علوم القرآن للزركشي 347/1. 7- الكفوي 176 و186. 8- نفسه 471. المراجع : – الجامع لإحكام القرآن للقرطبي – النحو الوافي لعباس حسن. – البرهان في علوم القرآن للزركشي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>