اللغة العربية في وجه التحديات


توطئة:

لغتنا العربية موضوع الساعة، كيف لا، وهي الرئة التي نتنفس من خلالها، وتضخ الحياة في أرواحنا وأجسادنا؟!

كيف لا، وهي لغة خطاب التكليف لرسالة الإسلام للبشر كافة، فهي لغة القرآن المنزلة بلسان قريش، ثم على ألسن العرب جميعاً. وحسب ابن خلدون، فمن الصعب أن ملكة لسانية أخرى تمتلك من براعة التذوق وعلو التمكن وارتجال القريحة، مثلما هي عليه ملكة اللسان الأولى التي استحكمت في ألسنة الناشئة(1). كيف لعربي أن ينسى أو يهمل لغته العربية التي خالطت عظمه ولحمه منذ ولادته ونشأته، ثم ينعقد لسانه عن أن يتحدث بها، فينصرف إلى غيرها؟! إنه حينئذ يفقد التذوق والتمكن والقريحة، ومن يفقدها فكيف سيكون حاله في حياته؟! وما أجمل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تعلُّم العربية يزيد في العقل والمروءة”.

تحديات في وجه اللغة العربية:

> إن التحديات الكثيرة التي تواجه لغتنا العربية، بدأت منذ ما يسمى بـ (الاستعمار) الذي حكم بلادنا سنين طويلة، وحاول خلالها سلخ أمتنا العربية المسلمة عن مصدر قوتها المتمثل في لغتها العربية -لغة القرآن الكريم-؛ سعياً منه إلى إخماد روح التحدي، وإطفاء جذوة التفكير، والتأثير، والابتكار، والعلو، والانتصار، في نفوس أبناء هذه الأمة العظيمة. لقد راهن (الاستعمار) على زوال هذه الأمة، “إن خلاصة نظريات الغزو الخارجي المغرضة، أن الأمة العربية جامدة، وفي طريقها إلى الزوال” (2).

ولقد واجهت الأمة العربية -وما زالت- تحدياً قيميّاً نتيجة موجة الانحلال الخلقي التي عمّت الغرب -صنو الاستعمار-، وأصاب شررها أجيالاً عدة في بلاد العرب والمسلمين، وكان لذلك تأثير سلبي واضح على الناشئة من حيث ضعف اللغة العربية عندهم .. لقد فتحت الأبواب مشرعة للغزو الأجنبي المنحل في بلادنا- إعلاميّاً وثقافيّاً وفكريّاً-، ما دفع كبارنا وصغارنا، شيبنا وشبابنا، ممن افتُتنوا بالغرب إلى الالتحاق بركبه بلا حدود، ففقدت اللغة العربية حضورها في نفوسهم وعقولهم، فصارت تنعى حظّها بين أهلها، ما جعل حافظ إبراهيم يقول على لسانها: رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي ولكن القرآن العربي الذي تكفل الله سبحانه بحفظه، وإلى قيام الساعة، أفشل مخططات الغازين، وبقيت اللغة العربية حيّة، ولقد أقرّ المستشرقون في مؤتمر لهم عقدوه في اليونان في القرن الماضي، أن اللغة العربية الفصحى هي اللغة التي تصلح للبلاد الإسلامية والعربية للتخاطب والكتابة والتأليف.

> تحدٍّ آخر في وجه اللغة العربية يكمن في “التكنولوجيا” الحديثة، حيث تهيمن اللغة الإنجليزية في مجالات الحوسبة والبرمجة والإنترنت بفعل العولمة، وإنك لترى الأجيال الصاعدة تتقن العمل على هذه الوسائل بغير لغتنا العربية ..

> وهنا تبرز قضية المصطلح، وهي تحدٍّ ثالث؛ فالمصطلح في أي لغة صناعة لغوية، تعتمد على الإنتاج العلمي والاختراع، ولقد نجحت اللغة العربية في قطع شوط طويل في هذا المجال من خلال تعريب التعليم العالي؛ فالتجربة في سوريا نموذج على ذلك، وباءت محاولات إحلال اللغة الفرنسية محل العربية بالفشل في مجال التعليم. ولم تتوقف حركة التعريب وإحلال المصطلحات العربية بدل الأجنبية وخصوصاً في دول المغرب العربي، فقد عقدت مؤتمرات عديدة لذلك، مثل:

1- أول مؤتمر للتعريب عقد في مدينة الرباط عام (1969م)، وكان من أهم منجزاته إعداد خطة عمل للتعريب.

2- المؤتمر الثاني عقد في الجزائر عام (1973م)، تمت المصادقة فيه على (961، 17) مصطلحاً في الفيزياء والكيمياء، والنبات والرياضيات والجيولوجيا.

3- المؤتمر الثالث عقد في طرابلس ليبيا عام (1977م)، تمت المصادقة فيه على معجمات في الجغرافيا والفلك والتاريخ والفلسفة والمنطق وعلم النفس والصحة وجسم الإنسان والرياضيات البحتة والتطبيقية، وتم تعريب (8893) مصطلحاً باللغات الثلاث.

4- المؤتمر الرابع عقد في طنجة عام (1981م)، وافق فيه على تعريب (28588) مصطلحاً في الكهرباء وهندسة البناء والمحاسبة والتجارة والنفط والجيولوجيا والحاسبات الإلكترونية”(3). > ومن التحديات التي تواجه لغتنا أيضاً ظاهرة الإعراب، فإن، “أهم الفوارق بين العامية والفصحى هو ظاهرة الإعراب، فالعامية لا تعرب إلا في الندرة” (4).

“والإعراب في لغتنا العربية عنوان قوتها وتطورها، وأمست قوانينه وضوابطه هي العاصمة من الزلل” (5)، يقول ابن فارس: “من العلوم الجليلة التي خُصّت بها العرب: الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ولولاه ما مُيّز فاعل من مفعول، ولا مضاف من منعوت، ولا تعجّب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد”(6). ولكن ظاهرة الإعراب أضحت مشكلة مؤرقة، حيث يعاني معظم طلبتنا في بلادنا العربية كافة من هذه الظاهرة، ولقد تابعت أعمال مؤتمر في دمشق عُقد قبل ثلاث سنوات لبحث هذه الظاهرة (الإعراب والنحو)، وقُدم فيه أكثر من (60) بحثاً، وبعد المداولات العديدة، خرج المؤتمرون بتوصية رئيسية مفادها: أن المشكلة ليست في (النحو) في اللغة العربية، فهو أمر سهل لا صعب، ولكن المشكلة الرئيسية تكمن في كيفية تدريس النحو؛ فقد تبين أن هناك قصوراً واضحاً في تفهيم الطلبة في المدارس منذ بداياتهم التعليمية النحو والإعراب بطرق سلسة بعيدة عن التعقيد؛ الأمر الذي أضعف اهتمامهم بهذه المادة، كما عزف كثير من الطلبة الجامعيين أيضاً عن مساق اللغة العربية، وخصوصاً في الكليات العلمية التي تدرِّس -بالإضافة إلى موادها العلمية- النحو والصرف والإملاء، فضلاً عن الكليات الأدبية التي تعاني هي أيضاً من قصور واضح لدى طلبتها في هذه المساقات. “الخراب بدأ ينخر في السنة الابتدائية الأولى واستمر في جميع مراحل التعليم، حيث فُرّغت المناهج والكتب المدرسية من جميع النصوص المؤسِّسة المؤصِّلة للفكر العربي السليم”(7).

> وفي هذا الصدد تبرز مشكلة أخرى تتمثل في عدم قيام الأساتذة الجامعيين بتشجيع الأجيال على التأليف باللغة العربية في الفروع العلمية الحديثة، ما أدّى إلى زيادة الفجوة بين الطالب وبين لغته الأم.

أدعو القائمين على اللغة العربية من علماء وأساتذة جامعات ومجامع لغة في بلادنا العربية إلى إعادة النظر في التوجيه اللغوي للأجيال، بتبنّي تأليفات لغوية غير جامدة تحقق الإمتاع والتشويق، وتركز على جماليات اللغة العربية، ومن ثم تشجيع طلبة العلم على الكتابة والتأليف في علم اللغة العربية وفقهها، كذلك أدعو إلى إعادة طلبة العلم والناشئة إلى حضن العربية الدافئ، لتعود لغتنا إلى موقع الصدارة والريادة. لا ننكر أن اللغة العربية تواجه تحديات كثيرة، لكننا في الوقت نفسه على يقين بقدرتها على صدِّ سهام التغريب والإقصاء .. وإن لغة تتوفر على اشتقاق ونحت وتصريف، لهي لغة صامدة أمام التحديات .. وإن لغة تتوفر على ثروة غنية بالمفردات، سخيّة بالمعاني والعبارات، شفافة رفّافة تحلّق في أعالي الفضاءات، لهي لغة عصيّة على الذوبان .. شامخة في كل زمان ومكان .. قادرة على امتصاص السيل اللغوي الوافد واحتوائه أيّاً كان .. لغتنا العربية هي حياتنا .. فأنعم بها من حياة .!.
أحمد طاهر أبو عمر(ü)
———–

(ü) مدير تحرير مجلة الفرقان -الأردن

1- انظر: مقدمة ابن خلدون / من ص 603 إلى ص 630 – طبعة وزارة الثقافة الأردنية.

2- ريمون طحان / اللغة العربية وتحديات العصر.

3- د. عبدالكريم مجاهد / ندوة: اللغة العربية وتحديات العصر – الجامعة الهاشمية – الأردن.

4- محمود تيمور / مشكلات اللغة العربية.

5- دراسات في فقه اللغة / د. صبحي الصالح.

6- الصاحبي في فقه اللغة / ابن فارس.

7- أ.د. ناصر الدين الأسد / في مقابلة مع جريدة السبيل الأردنية (ملحق التنوير والإصلاح) / العدد (7) تاريخ (3/4/2012م).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>