الخطبة الأولى
أما بعدُ: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعلموا أنَّ التقوى مَقْصدٌ من مقاصد الحج منصوص عليه في الكتاب العزيز؛ {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الالْبَابِ}(البقرة: 197). أيها الناس، من تأمَّل الحجَّ ومشاعره التي جعلَها الله تعالى محلاًّ لمناسكه وتعظيم شعائره، تبين له أنَّ رحلة الحجِّ رحلة مُصَغَّرة لحياة الإنسان في الدنيا، وأنَّ الإنسان في الحياة الدنيا يسير كما يسير الحاج منذ أن يتلبَّس بنُسكه إلى أن ينتهي منه. وقد حذَّر الله تعالى بني آدمَ من الدنيا، وبيَّن أنَّها متاع الغرور؛ {وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}(آل عمران: 185). وهو متاع قليل زائلٌ؛ كما قال الله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الاخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الاخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ}(التوبة: 38)، وقال سبحانه في الكافرين: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِيسَ الْمِهَادُ}(آل عمران: 197). فكذلك الحج يكون في أيام معدودة ثم تنتهي؛ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}(البقرة: 203)، لكنَّ كثيرًا منا ينسى ويغفُل ولا يشعر بسرعة انتهاء الدنيا؛ فأملُهم فيها طويل. إنَّ رحلة الحج تذكِّر الحاج بسَيْرَه إلى الله تعالى وإنَّ مَشْهد الحجيج وهم محرِمون وينتقلون في مناسكهم من مشعر إلى آخرَ إلى انتهائهم من مناسكهم، ليذكِّر مَن يراهم بسير الليالي والأيام بالناس إلى قبورهم. إنَّ للدنيا بداية ولها نهاية، وبدايتها منذ ولادة الإنسان، وتنتهي بموته؛ لينتقلَ إلى دار أخرى، والحاج حين ينتقل من بلده إلى الحج، فهو يخلعُ ملابسه؛ ليعيش حياة جديدة بالنُّسك، لها خصائصها ولباسها وأعمالُها. والإنسان في الدنيا عبدٌ لله تعالى شاء أم أَبَى، والمؤمن قد رَضِي بعبوديَّته لله تعالى ومُقْتضى قَبوله بها يُلْزمه بواجبات يفعلها، ومَنهيَّات يجتنبها، وحدود يَقِف عندها؛ {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}(الطلاق: 1). والحاج حين يتلبَّس بإحرامه، فقد ألْزَمَ نفسه بمناسكه، وأعلنَ التزامَه بها حين قال: لبَّيك اللهمَّ لبَّيك؛ أي: استجبتُ لك يا رب، وعليه أركان وواجبات لا بُدَّ من أدائها، ومحظورات لا بدَّ من اجتنابها ما دام متلبِّسًا بالإحرام، فهذا الالتزام بفِعْل أركان الحج وواجباته، واجتنابِ محظوراته: هو تربيةٌ للمؤمن على الالتزام الدائم بفِعْل الطاعات ومُجانبة المحرَّمات؛ فإن مَن قَدَر على أداء مناسك الحج وتعظيم شعائره، فهو قادرٌ على الالتزام بتعظيم حُرمات الله تعالى في كل زمان ومكان، والمحافظة على أوامره، ومَن منَعَ نفسَه أثناء إحرامه مما هو مُباح له قبل الإحرام، فهو قادرٌ على منْعِ نفسِه من المحرَّمات طيلة عُمْره. وانتقال الحاج من نُسك إلى نسكٍ يُذكِّره بانتقاله في حياته الدنيا من طاعة إلى طاعة، فالحاج تَثْقُل عليه المناسكُ، فإذا أخذ نفسه بالعزْمِ وعوَّدها على الحزْم، أتى بالمناسك على خيرِ وجْهٍ، وتحمَّل فيها المشاق والمكارِه، حتى يتمَّ نُسَكَه على أفضل وجْهٍ، ومَن تقاعَسَ وتثاقَلَ، اجتمعتْ عليه المناسكُ، ولرُبَّما أخَلَّ بشيءٍ منها أو تَرَك ما يُنقِص نُسكه أو يُبْطله، وهكذا المؤمن إذا أخَذَ نفسه بالحزْم في الطاعات واجتناب المحرَّمات، هانتْ عليه واعتادها، ووجَدَ لذَّتَها كما يجد الحاج لذَّةَ إتمام النُّسك، وإذا تثاقَلَ عن بعضها، ثَقُلَتْ عليه؛ حتى يفرِّط في الواجبات، ويقعَ في المحرَّمات. وللحج أيام، وفي أيامه أعمال، ففي أوَّله الإحرام، ثم الطواف بالبيت، والسَّعْي بين الصفا والمروة، ثم الانتقال في اليوم الثامن إلى مِنًى، والمبيت بها ليلة التاسع، والمسير إلى عَرَفة في صُبْحها، والوقوف بها إلى مَغيب الشمس، ثم المبيت بمزدلفة ليلة النَّحْر، والرَّمْي والْحَلْق والنَّحْر، والتحلُّل والطواف بالبيت يوم العيد، ثم العودة إلى مِنًى للمبيت بها ورَمْي الجِمار، إلى أن يودِّعَ البيت بالطواف في آخر حَجِّه. كل هذه التنقُّلات الزمانية والمكانية في الحج تذكِّر المؤمن بانتقاله من زمنٍ إلى زمنٍ في مَرضاة الله تعالى ومن طاعة إلى طاعة، فمن صابَر على الطاعات ومُجانبة المحرَّمات، فهو مرابطٌ على عهْده لله تعالى مُحققٌ لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}(آل عمران: 200). والحاج يعمل في مَنْسكه عملاً كثيرًا، ويتحمَّل مَشقَّة كبيرة، ومع ذلك يُتمُّ المناسك المأمور بها، وهكذا ينبغي أن يكون المؤمنُ على الدوام في إتمام الطاعات، ولا تقارَن مشقَّة أعمال الحج، وهو سفر وتَرحال، وزحام وكثرة تنقُّل، لا تقارَن بالعبادات الأخرى التي يقوم بها المؤمن حال إقامته، فكيف يقدِر كثيرٌ من الناس على مناسك الحج، ولا يقدرون على الالتزام بالطاعة على الدوام وهي أهونُ من الحج؟ وكيف يحبسون أنفسَهم عن محظورات الإحرام حال تلبُّسهم به وفي حبسهم لها من الرَّهَق ما فيه، ولا يقدرون على ما هو أيسرُ من ذلك وهو مُجانبة سائر المحرَّمات التي جعَل الله تعالى في المباحات ما يُغني عنها؟! إن سببَ ذلك هو أنَّ المتلبِّس بالنُّسُك يعلم أنه يحلُّ منه بعد أيام، فيقهر نفسَه في تلك الأيام القلائل، لكنَّه يعجز عن قَهْرها على ما هو أقلُّ من ذلك إذا كان على الدوام، ولو أنَّ المؤمن استشعرَ سرعة انقضاء الدنيا كما تنقضي المناسك، لَمَا طال أملُه فيها، ولاستغرَقَ زمنها فيما يُرضي الله تعالى وجانَبَ ما يُسخطه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : >ما الدنيا في الآخرة إلا مَثَل ما يجعل أحدُكم أصبعه في اليمِّ، فلينظر بِمَ يرجِع؟<(رواه مسلم)، وفي حديث آخرَ مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم عيشَه في الدنيا بوقتِ القيلولة من قِصَره، فقال صلى الله عليه وسلم : >مالي وللدنيا؛ إنَّما مَثَلي ومَثَل الدنيا كمَثَل راكبٍ قَالَ أي: نامَ في ظلِّ شجرة في يوم صائفٍ، ثم راح وتَرَكها<(رواه أحمد). وفي عمران مشاعر المناسك أيام الحج بالساكنين عبرة، أيُّ عبرة! فمِنًى ومُزدلفة وعَرَفات خالية من الناس طيلة العام، حتى إذا كان يوم الثامن من ذي الحجة تقاطرَ الناس على مِنًى؛ حتى تمتلِئ بهم وتزْدَحم، وفي صبيحة التاسع يتوافدون على عَرَفة، فما تزول الشمس إلا وقد اكتظَّتْ بالناس، وفي الليل تمتلئ بهم مزدلفة إلى فجر يوم النَّحْر. وكذلك الأرض حين أهبطَ الله تعالى عليها آدمَ وحوَّاء عليهما السلام كانتْ خالية من البشر، وظلَّتْ بتعاقُب القرون تعمُر بهم إلى أن بلغتْ أعدادُهم في زمننا ستة مليارات نسمة، فكم في الأرض من الدول والمدن والحركة والضجيج والعمران! وكلُّ ذلك سيأتي عليه يوم ينتهي حتى كأنْ لم يكنْ، وستعود الأرضُ مرة أخرى مُقْفِرة من البشر حين يأذن الله تعالى بانتهاء العالم الدنيوي، وانتقال البشر إلى العالم الأخروي، فما أبلغَها من عِبرة! وما أعظمَها من عِظَة لو وعاها الناس وعقلوها وهم يرون الحجيجَ يعمرون المشاعر المقدَّسة في أيام معدودات ثم يفارقونها! نسأل الله تعالى أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن يوفِّقنا للعمل بما علَّمنا، وأن يرزقَنا الاعتبارَ بما يمرُّ بنا؛ إنه سميعٌ مُجيب. {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(القصص: 60). اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك………..
الخطبة الثانية
قال ابن المبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له. وقال الفضيل لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنت تظن أنه شهد الموقف أحد شر مني ومنك فبئس ما ظننت. وقال شعيب بن حرب: بينا أنا أطوف بالبيت؛ إذا رجل يشد ثوبي من خلفي، فالتفت فإذا بالفضيل بن عياض، فقال: لو شفع في وفيك أهل السماء؛ كنا أهلا أن لا يشفع فينا، قال شعيب: ولم أكن رأيته قبل ذلك بسنة، قال: فكسرني، وتمنيت أني لم أكن رأيته. وكان وهيب بن الورد رحمه الله تعالى يسأل عن ثواب شيء من الأعمال كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه ! ولكن سلوا ما الذي على من وفِّق لهذا العمل من الشكر، للتوفيق والإعانة عليه ؟! وكان عبد الله بن المبارك يحج سنة ويغزو سنة فلما كانت السنة التي يحج فيها خرج بخمسمائة دينار إلى موقف الجمال ليشترى جملا فرأى امرأة على بعض الطريق تنتف ريش بطة فتقدم إليها وسألها ماذا تفعلين؟ فقالت: يرحمك الله أنا امرأة ولي أربع بنات مات أبوهن من قريب وهذا اليوم الرابع ما أكلن شيئا وقد حلت لنا الميتة فأخذت هذه البطة أصلحها وأحملها إلى بناتي فقال عبد الله في نفسه : ويحك يا ابن المبارك أين أنت من هذه؟ فأعطاها عبد الله الدنانير التي كانت معه ورجع إلى بيته ولم يحج هذه السنة وقعد في بيته حتى انتهى الناس من مناسك الحج وعادوا إلى ديارهم فخرج عبد الله يتلقى جيرانه وأصحابه فصار يقول لكل واحد منهم: قبل الله حجتك وشكر سعيك فقالوا لعبد الله: وأنت قبل الله حجتك وشكر سعيك إنا قد اجتمعنا معك في مكان كذا وكذا (أى أثناء تأدية مناسك الحج) وأكثر الناس القول في ذلك فبات عبد الله مفكرا في ذلك فرأى عبد الله النبي في المنام وهو يقول : يا عبد الله لا تتعجب فإنك أغثت ملهوفا فسألت الله عز وجل أن يخلق على صورتك ملكا يحج عنك…..
إبراهيم بن محمد الحقيل